السلام عليكم ...

كيف حالكم؟ أتمنى أن تكونوا بصحة و عافية و سلامه ... فهذا نهجكم دائماً الذي أحب أن تكونوا عليه ... اليوم أكتب لكم بضعة كلمات اعتصرت قلبي فلم أجد مكاناً آخر غير هذا لأعبر فيه ... فصبراً علي و سامحوني إن أخطأت ... هدفي من هذا الكلام فقط مشاركتي لكم في قسم قلم الأعضاء ... ولا تسيؤا الفهم رجاءً ...


دخلت في أحد الأيام الماضية إلى مبنى كنت من أبرز ساكنيه في وقت مضى. كان المنبر الذي بدأت منه حياتي الاجتماعية مع الأصحاب و الأصدقاء. وقفت بعتبة بابه أستطلع فحوى هضابه و أقلب ناظريَّ بين أشجاره الوارفهة الظلال و الثمار. أغلقت عيني بإحكام و بدأت أتنفس هواءً عليلاً ممزوجاً بعبق الزهور و الورود و أستمع لنسائم الهواء تتخلل أوراق الشجر حتى امتلأت رئتي بالهواء لتبدأ عملية إخراجه بزفير قوي مصحوب بتأوه و ضيق من حالٍ كان يوماً في أوج عنفوانه و نضرته.

سبحان مغير الأحوال و الأزمان، سبحانه و تعالى كيف تمضي السنون و تمر الساعات و الدقائق و الثواني ولا نشعر بها. تأملت في نافذة كبيرة في هذا المبنى العظيم لأرى سرداً سريعاً رائعاً لكل الأحداث التي كانت تحصل في تلك الغرفة. أصحاب و أتباع و أصدقاء كانوا يتمركزون هنا و هناك ... ينتقلون من غرفة لأخرى بانتظام و بفعالية و بحب و وئام وتناغم و انسجام. أين تلك الأيام البسيطة المثمرة من هذه الأيام المعقدة الفقيرة! بدأنا صغاراً و أقلية لا نثير غباراً ولا جلبة و لكنا كنا نترك في طرقنا أثاراً تبعها الآخرون. حافظنا على بساطتنا قدر المستطاع لكن عندما يؤمن الناس بأن ما يقوم به الآخرين من تطور و تحديث لمواكبة أمواج التقدم هو ما ينبغي اتباعه ... فهنا فقط أقف أنا لأقول كفى ! كفى اتباعاً لغيرنا ولنبق على حالنا و لنحافظ على استمرارية و جودة إنتاجنا في هذا المبنى.

نعم التطور مبتغى كل شخص لكن لم نحمل أنفسنا ما يفوق طاقتنا؟ لماذا نجعل من المهمة البسيطة الكافية مهمة معقدة مليئة بالمصاعب و أكثر سرقة للوقت و العمر. الانتقال إلى مرحلة أكثر تطوراً تجبر الجميع على الانتقال لهذه المرحلة فلا أحد يرغب باستعمال شيء أقل جودة. فكيف أقبل أنا بمنتج أقل جودة من هذه الشركة إن كنت قد حصلت منهم على نفس المنتج سابقاً بجودة عالية و انتاجية احترافيه؟ ألم يكن من الأفضل البقاء على البساطة؟ لا أدري فلكلٍ وجهة نظر !

ثم أكملت مسيري لأسترق النظر من خلال نافذة أرى مكتبي وقد تبعثرت عليه الأوراق و الرسائل التي لم أفتحها و التي لم أرد عليها، تنهدت و تسمرت في مكاني لبرهة مرت خلالها لقطات سريعة أمام ناظري عن حياتي في تلك الغرفة وما مر بها من أمور. غريب حالك أيها الزمن ... سبحان الله ... كل شيء كما هو لكن مرور الزمن يغير الأشياء إلى أبعد درجة ... لم يأت في بالي يوماً أنني سأراقب هذا المكان متأملاً مدى انغماسي فيه لأعوام خلت ... يا الله ... دخلت مكتبي وفتحت عدة رسائل ... قرأت كلماتها ... لكنها ... أبداً لم تشدني ... لأنها بلا حياة ! نعم كلمات بلا حياة ولا روح ... فكيف بالله عليكم أرد عليها. اغرورقت عيناني لعدة رسائل قديمة أعدت قراءتها فلم أتمالك نفسي ... واعجباه ... أوبعد كل هذه السنين تظل هذه الرسائل مرتعاً لقلبي المسكين ... حقاً مسكين أنت يا قلبي ...

خرجت مسرعاً من مكتبي لأرى قاعة غريبة و غرفاً أغرب منها لا تمت لنا بصلة بل أقحمت نفسها بيننا لدواعي التطور و لجمع المزيد ممن يطالبون بالتطوير و الابداع. نظرت لفوج هائل من البشر يمشي هنا و هناك بلا هدف واضح ولا نتيجة واضحة. قاومت رغبتي بالهروب لأدخل و أستطلع مكنون هذه القاعات لعل و عسى أن يجبر خاطري ما يصنعون لكني تمنيت أني لم أدخل فقد هالني ما رأيت! نظرت إلى تلك الحشود الهائلة من الملفات المشتته هنا و هناك، منها الأصيل و منها المأخوذ من الغير ... " عمَّ تبحث هنا يا عمَّاه ؟" سؤال طرحه علي أحد العاملين هناك باستغراب ... فقلت له ... ألا تعرفني ؟ قال: لا، ولكن كيف أخدمك ؟ ... قلت لا بأس يا أخي فأنا أتجول في المكان و سرعان ما أرحل. تركني الشاب مستغرباً فقمت بمراقبته و هو يعود لمكتبه ليتابع آخر ما وصلهم من الملفات التي ينبغي معرفة مكان تكديسها ... بدأت أشعر بالدوار ولم تعد قدماي قادرة على حملي فأسرعت للخارج وجلست تحت شجرة أنظر للمبنى ... هل كان هذا النتاج هدفي؟ هل يجدر بي أن أكون سعيداً متباهياً بما أجده أمامي ...

في جلستي تحت الشجرة أتت نحوي قطة و افترشت الأرض من حولي و بدأت تلعق وتنظف شعرها وهبات النسيم تحرك شعراتها و أشعة الشمس تتسلل بين أوراق الشجرة لتطبع على جسد الهرة أشكالاً بديعة ... سبحان الخالق عز وجل ... إنها البساطة يا عباد الله ... البساطة و الوسطية في الأمور ... لكم أحسدك يا هرة على حريتك و استقلالتك ... رفعت رأسي للسماء متأملاً سحابة تتحرك مع الهواء و طيور تسبح بحمد ربها و شجرة تنقي هواءنا و قلب مفطور يجلس بقربها ... رحماك يا ربي بنا ... فنحن من كتبنا على أنفسنا الشقاء ... صياح و صراع و قتال و انتقام و حقد و ضغينة و زعل ... ليس هذا ما تمنيته أبداً هنا ... ليس هذا ما تمنيته أبداً !! كيف أصلح كل هذا؟ كيف أعود بهم إلى البساطة؟ هل نترك التطور و التبعية ونعود لبساطتنا و عزلتنا أم نبقى كما نحن ... نسير و نسير و نسير ... بلا هدف وضاح مرسوم الملامح ولا نتيجة مرجوة نحصد ثمارها ... بساطتنا و استقلاليتنا قد ذهبت و تركتنا وودعتنا ...

تحاملت على نفسي لأقف من جديد ... و أدرت ظهري للشجرة و اتجهت إلى البوابة ... وقفت عندها و ألقيت نظرة أخيرة عليها ... أنت يا شجرة ... بسيطة كما كنت دائماً ... فهنيئاً لك ...

محمد شريف