السلامُ عليكم و رحمةُ اللهِ و بركاتُه .."


إحساسُ السمراء

سارت بخطواتِها الواثقة تضربُ الأرضَ بحذائها بلطف ليُصدرَ صوتاً مألوفاً طالما تطلعتُ لصاحبته فقد كان لمشيتها نغمةٌ خاصة و خاصةٌ جداً ..
اعتدتُ أن أُلقي التحيةَ عليها كُلَ صباح لتُبادلنيّ إياها بذاتِ الوجه و ذات الابتسامة التي لا تتغير ..
و في ذلكَ اليومْ مررتُ بجوارِها و لم أُلقي التحيةَ عليها لتستوقفنيّ ممسكة كتفيّ بلُطف لتُرغمنيّ للالتفاف إليها بوجهٍ مُتجهم ليستقبلنيّ وجهها الأسمر بابتسامتِها المعهودة و التي رأيتُها اليومَ سمجةً لتتحدثَ معيّ للمرةِ الأُولى فقد كانَ كُلُ ما بيننا هو مُجردْ ابتسامةٌ مُجاملةٌ و تحيةُ صباحٍ لا أكثر :
ابتسميّ فقد أصابَ غيرُكِ ماهو أسوء مما أصابكِ ..
مططتُ شفتيّ بامتعاضٍ قائلةً بضجر :
لا أظُن , عُذراً أنا مشغولة ..
و هممتُ بالرحيل لكنَ كفها ظلَ مُمسكاً بكتفي و هي تُتابع و كأنها لم تسمعنيّ :
لحظة فقط , إن كان الإحساسُ لا يُخيفُكِ فأنتِ لازلتِ بخير ..
تأففتُ بملل و قلتُ بعصبية :
لم أفهم شيئاً و لستُ على استعدادٍ لأفهم دعينيّ وشأنيّ ..!!
ظلتْ مُحتفظةً بابتسامتها و هي تقولُ برقة :
لا بأس ستفهمينَ مع الأيامْ فقط ابتسميّ أرجوكِ ..
زفرتُ بحرارة و أنا أرسمُ ابتسامةً مُجاملةً على شفتيّ و أقولُ مُغلقةً جميعَ الطُرقِ لبدْ حوارٍ جديد :
حسناً لقد ابتسمتْ هل رأيتِ .. وداعاً ..
ثُمَ انتزعتُ ذراعيّ من كفها بعنف و ابتعدتُ عنها و هيَ لا زالتْ تُتابعُني بنظراتها حتى اختفيتُ عن ناظريها و أنا أُقلبُ شفتيّ بازدراءٍ متمتمةً :
مُزعجة ماذا تُريدُ منيّ ...؟!

ثُمَ لم أعُد أراها ثانيةً فقد كُنتُ أتحاشاها و لا أعلمُ لماذا ..؟!
حتى أتى ذلكَ اليوم الذيّ أخبرونيّ فيه بأنها توفيتْ في حادثِ سيرٍ أثناءَ عُبورها الطريق للمجيءِ لمقرِ العمل , في بدايةِ الأمرِ صُدمتْ و لم أستوعب الأمر ثُمَ لم ألبثْ أن تأقلمتُ على الوضع و أنا أُردد كُلُنا يوماً راحل ..
لكنَ فكرتيّ تلكْ تغيرتْ تماماً , ففي أحدِ أيامِ الخريفِ المُلبدةِ بالغيوم و بينما أنا أُقلبُ بعضِ الملفاتِ في مكتبيّ لمحتُ ذلكَ الملفَ الأصفر المُذيل باسمي و الذي تفوحُ منهُ رائحةُ عطرٍ مألوفة امتزجتْ برائحةِ الغُبار و التي اختفتْ مُنذُ أشهُر ..!
لم أستطع استيعابَ الأمر في البداية فقد كانتْ تلكَ هيَ رائحةُ العطرِ الذيّ تضعهُ تلكَ السمراء ..!
و بفضولٍ عجيب مزقتُ الجُزءَ العُلويّ من المظروف لأجدَ ورقةً بداخله لأُخرجها بلهفةٍ و أفضها أمامي لتفاجئني بكلماتٍ خطتها ليّ و ليّ أنا فقط من بينِ كُلِ موظفيّ المكتب كُنتُ أنا حيثُ قالت ليّ في رسالتها الأخيرة :

عزيزتيّ و اسمحيّ ليّ أن أُناديكِ عزيزتيّ فلستُ أعلمُ عنكِ شيئاً حتى اسمُكِ , لكنكِ دلفتِ قلبيّ من أوسعِ أبوابه فقد كُنتِ الوحيدة التي تُبادلُنيّ الابتسامةَ و التحية كُلَ صباح فشُكراً لكِ ..
بالطبع تذكُرينَ يومَ أن تحدثتُ معكِ للمرةِ الأُولى و الأخيرة و آن الأوان لأُفسرَ لكِ ما قُلتْ ..
لم أشأ أن أراكِ حزينة و أصمُت فأردتُ أن تعلميّ أن هُناكَ غيركِ يُعانيّ و بشدةٍ أيضاً و قد كُنتُ أنا إحدى هؤلاء ..
عزيزتي ..
أتعلمينَ أيُ إحساس قصدتُ في حديثيّ معكِ ..؟
قصدتُ ذلكَ الشعورَ القاتل المُؤلم الذيّ تمنيتُ أن أفقدهُ يوماً و لم أُفلح فهو شعورٌ داخلي مقيتْ ..
الإحساسُ بأننيّ سأفقدُ شخصاً عزيزاً شيئاً غالياً و دوماً ما يكونُ إحساسيّ في محله فقد ماتَ كُلُ من أُحبُ في حياتيّ و قد كُنتُ اشعُر بل كُنتُ أعلم لذا فقد حرصتُ على ألا يموتَ أحدهُم إلا وهو راضٍ عنيّ ..
ظللتُ أعيشُ لسنواتٍ في كنفِ ذلكَ الإحساسِ المُخيف أوزعُ ابتساماتٍ علَ من بعديّ يذكرُنيّ بالخيرِ حينَ أموت و أتمنى أن يكونَ ذلكَ قد حدثْ ..
أتعلمينَ لمَ تركتُ تلكَ الرسالة اليوم ..؟
لأننيّ أشعرُ باقترابِ أجليّ , بالأمسِ فجراً استيقظتُ على صوتِ صريرِ إطاراتِ سيارةٍ تسيرُ بسرعةٍ هائلة و رغمَ أنَ الصوتَ ربما كانَ عادياً للغايةِ للبعض لكنه كان مُرعباً جداً بالنسبةِ ليّ فقد قفزتُ من فراشيّ و أزحتُ الستائرَ جانباً و يالَ المهزلة ..!
فوسط الشارعِ الخاليّ سارت سيارةُ الإسعافِ بأنوارِها الحمراء المُميزة ببطْ و كأنها تُخبرُنيّ بأننيّ قريباً سيكونُ مصيريّ داخلها إلى ثلاجةِ الموتى فيّ المشفى , حينها تملكنيّ الإحساسُ باقترابِ أجليّ و أصبحَ كُلُ ما حوليّ يُنذرُنيّ بالموتْ و لم أشُك لحظةً واحدةً في ذلكَ الإحساس و أظنهُ لن يخيبْ ..
الشيءُ الوحيدُ الذيّ استفدتهُ من ذلكَ الإحساس هو أن أعملَ لأجلِ الله دوماً و أبداً حتى يقضي اللهُ أمراً كانَ مفعولاً ..
لم أكتُب لكِ تلكَ الرسالة لأقلبَ عليكِ المواجع , فقط أردتُ أن أُحققَ أُمنيةً من إحدى أمانيّ التيّ لم تتحقق , بكتابةِ رسالةً أخيرةً في حياتي ّيتذكرُنيّ بها شخصٌ ما و قد كانَ ذلكَ الشخص أنتِ ..
رُبما لن تقرئي رسالتيّ لكنَ المُهم هوَ أننيّ عبرتُ عن مشاعريّ فيها , أودُ أن نلتقيّ سوياً في الجنةِ بإذنِ الله فاعمليّ بجدٍ أرجوكِ و لا تدعيّ الابتسامة تُفارقُ شفتيكِ ..
شُكراً لكِ ..

و انتهت الرسالة و سالت دموعيّ فيضاً بللَ الورق و صوتُ شهقاتيّ المُرتفعة دفعَ بزُملائيّ في المكتبْ للإسراعِ إليّ و سؤاليّ عما بيّ لكننيّ لم أكُنْ معهم فقد كانت أفكاريّ مُشتتةً كُلياً , أبكيّ و حينَ أتذكرُ آخر جُملةٍ في رسالتها أبتسمُ و أضحك و لا زالتْ دموعيّ تنهمر دونَ توقفْ ..
كانتْ تُعانيّ من الإحساس ..!!
عجبيّ , الإحساس الذي أُعانيّ من انعدامه ..؟!؟!
تُعانيّ وحدها , ليتنيّ صدقتُها حينَ قالت بأنَ هُناكَ من يُعاني ماهو أسوء ..
لا بأس سأُسامحكِ هذهِ المرة لأنكِ لم تُخبرينيّ فلم أكُن أستحقُ أن أكونَ هذا الشخص على أيةِ حال ..!
و لكنْ ها أنا أعملُ بوصيتكِ فابتسامتيّ لا تُفارقُ شفاهيّ إلا فيما ندر ..
أُرقُدي بسلامٍ في الجنةِ بإذنِ الله ..

" تمت "
9 / 2 / 2010 م