...
لو لم تكن اللغة العربية لغة مدنيةٍ وعمران ، ولو لم تكن متسعة الآفاق غنيةً بالمفردات والتراكيب ، لما استطاع أسلافكم أن ينقلوا إليها علوم اليونان وآداب فارس والهند ، ولألزمتهم الحاجة إلى تلك العلوم تعليم تلك اللغات ، ولو فعلوا لأصبحوا عرباً بعقولٍ فارسية وأدمغةٍ يونانية ، ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمته .

قامت اللغة العربية في أقل من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونُظُمها الاجتماعية و آدابها فوعت الفلسفة بجميع فروعها ، والرياضيات بجميع أصنافها ، والطب والهندسة والآداب والاجتماع ، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية في الأمم الغابرة والحاضرة .

إنَّ كثيراً من العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا على طريق اللغة العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم ، وإنَّ المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنيَّة ويوفونها حقها من التمجيد والاحترام ، ويعترفون لعلماء المسلمين بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم ، عنهم أخذوها وعن لغتهم ترجموها ، وإنهم يحمدون للدهر أن هيأ لهم مجاورة المسلمين بالأندلس وصقليِّة وشمال إفريقيا وثغور الشام ، حتى أخذوا عنهم ما أخذوا واقتبسوا عنهم ما اقتبسوا ، ولا يزال هؤلاء المنصفون يذكرون فضل معاهد الأندلس العربية ومعاهد شمال إفريقيا ومعاهد الشام على الحضارة القائمة ، ولا يزالون يردون كل شيء إلى أصله ، ويعترفون لكل فاضلٍ بفضله ...

من كتاب " آثار الإمام محمد البشير الابراهيمي 1/374-375 "