بسم الله الرحمن الرحيم
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف الحال والصحة والمعنويات ؟!
^^
كانَ من المفترض أن أكونَ مرابطةً على مكتبي أدرسُ ولكنْ ضجرتُ حد تذكري لفرويد صاحب منهج التحليل النفسي للنصوص الأدبية ^_^ وتذكرتُ شخصاً آخر معه في نفس المنهج تحدثَ عن نظرية تفسير الحياة البشرية كتعاقب الفصول الأربعة..
ما فعلتُ هو أنني عكستُ النظرية.. ^^" بدلاً من استخدامها في التحليل، استخدمتها في كتابة النص ^^""""" ( من أعراض الجنون)
..
يكفي هذياناً وثرثرةً وها هي القصة المبعثرة : )
******
تحتَ الشجرةِ أعلى التلة فقدتُ قلادتي التي أهداني إياها أبي الراحلُ في عيدِ ميلادي الأخير. كنتُ متأكدة منْ ذلك، فقد كنتُ احاولُ صنع رجلَ ثلجٍ وكنتُ سألبسهُ قلادتي كي أجعله كأبي تماماً. كان هذا البارحة ويبدو أنَّ الثلج قد ذاب قليلاً ومن ثم تجمدَ ثانيةً وابتلعَ قلادتي بين جنباته..
فقدتُ الأمل وضجرتُ من كل شيء.. فرميتُ بنفسي على الثلجِ فاردةً يديّ وقدميّ. كانَ الثلجُ سريري والريحُ غطائي.. وأحلامي وسادتي.. ومرّت الحياةُ بشريطها أمامي حينَ أغمضتُ عينيّ. سمعتُ أجراسَ قلبي تناديني بأنَّ أبي غاضبٌ الآن فقد أضعتُ هديته التي احتوت صورته وصورتي. لكنْ لمْ يكن بوسعي صنع أيّ شيءٍ إلا إنتظار ذوبانِ الثلج.
حينَ فتحتُ عينيّ، لا أعرف كيف ولكن صبغ السوادُ المساحات البيضاءَ حولي.. ورأيتُ جنازةَ أبي تسير أمامي في موكبٍ مهيب.. وأدمعي تتساقط مع تواتر نحيبِ أمي.. كلُّ شيءِ ميت هنا، حتى الشجرة الواقفة هنا متسمرةً.. ماتت معالمها مع قسوة البرد أو بسبب هجرانِ أولادها لها. فالآن هي متجردةٌ من ثيابها حتى مرميةٌ عندَ عتبة المسنيِّنَ.
فجأةً، سطعتْ الشمسُ وأزعجتْ عينيّ.. ثم سرعان ما لاحتْ الخادمة تناديني وتلوحُ من بعيد وكأنها كانت تتبعني والآن تُظهرُ نفسها. حينما دنتْ مني وهي تلهث مدتْ القلادة ومعها ورقة مطوية.. دهشتُ لما رأيتُ وسألتها عيوني "كيف" فردتْ عليّ وهي تحاول إلتقاط أنفاسها " مرَّ شخصٌ غريب وقال هذهِ للآنسة وكتبَ رسالة صغيرة"
" وأينَ هو الآن؟ ومن هو أصلاً" تساءلتُ متلهفةً فأومأت بلا.
يقولونَ الربيعَ موسمُ الثوراتِ الطبيعية.. ففيه يصحو كل ما هبّ ودبّ من سباتهم الشتوي بعد أنْ تهبَ رياحُ التغييرِ. وكذلك المشاعرُ.. ربيعها حينَ تستيقظُ متوردةً متفتحةً بعبيرِ الحبِّ.. فيصاحبها أعراضُ ثورانٍ داخليّ تترجمهُ أحاسيسٌ خجلة بريئة جريئة؛ لهذا انتظرتُ الربيعَ طويلاً.. كلّ يومٍ يمرُ بي لا يخلو من تلك الورقة المطوية في قلبي.. لمَ قالَ بأن أنتظره حينَ تتفتحُ التويجات ؟!
قصصتُ تُويجَ الوردةِ الجوريةِ في حديقتنا الخلفية دونَ وعيٍ.. وما إن انتبهتُ على فعلتي تحسرتُ وبشدة.. فهبطتُ أتناولُ بتلالتها المتناثرة.. وأحسستُ كأنيّ أجَمّعُ عثراتِ قلبي.
كنتُ أبكي، هذا ما أحسستُ به حينما مُدَّ إليَّ منديلٌ ورديّ اللونِ قائلاً "لا تلوثي وجهكِ الجميلَ آنستي".. اخترقَ الصوتُ أسمعي، من صاحبُ الصوتِ اللطيفِ جداً. فالتفتُ إليه لأرى شاباً حسنَ الوجهِ يجلسُ القرفصاء يتطلعُ إليّ وكأنه يراقبُ طفلةً صغيرة ضاعتْ عن أمها في السوقِ..
"من أنتْ ؟!" قلتها وأنا أبكي وأمسحُ الدموعُ بمنديله..
" شخصٌ عابرُ " وابتسم ! وزاد حيرتي.. لمْ يخفق قلبي وحسب إنما كاد أن ينفجر.. فتصاعدتْ الحمرة أعلى وجنتيّ.. فأخذَ يضحكُ عليّ.. لا أعرف إنْ كان يسخر مني الآن أم قد أعجبه منظري المزري هذا..
فزدتُ بكاءً خجلاً من نفسي.. وصرتُ طفلةً بحق.. قدْ انكسرتْ لعبتها وهي تلوحُ بها بقوةٍ دونَ وعي. لكنه أخرجَ دفتر ملاحظاتٍ ملون من جيبِ قميصه العلوية. ودوَّن كلاماً وددتُ أن أراه بشغفٍ جففَ دموعي المنهمرة.. وابتسم!
مد الورقة إليّ وقال " موسمُ تفتحِ بتلاتِ الأزهار من التويجِ الأمِ.. مرحباً"
صمتُّ لبرهةٍ.. ثم انفجرنا ضاحكينِ
قد بدأَ الربيعُ منذ تلكِ اللحظة.. وحانَ موعدُ فورانِ وثورانِ مشاعري الخديجة..
لطالما آمنتُ أنَّ اللونَ الأصفر وعائلته ليسوا ألوانَ غيرة، إنما ألوانَ إبتهاج!
فالشمسُ في بهجتها تسطعُ ترسلُ خيوطها الذهبيةَ في كلِ مكانٍ لتنشرَ مشاعرَ البهجةِ وَالسُّرور.. أثمرتْ مشاعري يومها حينما كنتُ أُطلُّ منَ نافذة شرفتي المطلةِ على الحديقةِ الخلفية حيثُ تفتحتْ تويجاتُ قلبي.. كانَ واقفاً يتفحصُ النباتاتِ هنا وهناك ويراعاها وكأنها بناته.. وكمْ تمنيتُ لو كنتُ تلكَ المخلوقاتْ التي لا تتحركْ تتكلم كيْ يعتنيَ بيَ كما يعطيها كلَّ اهتمامه اليومي.. لكنه كانَ ينظرُ إليّ دوماً فقدْ كانَ واضحاً مدى تعلقي به وأنّ عينيّ لا تكادان تفارقان هيئته..
ابتسم وانحنى لي كما يفعلُ النبلاء أمامَ السيداتْ.. فخفقت روحي معي وانحنى قلبي لهُ.. وقطفَ وردةً جوريةً حمراء.. من تلك المفضلة لديّ ولوح لي بها كأنه يقدمها لي.. فاعتلت وجنتي حُمرةٌ هربتْ بسببها من المكانِ كله.. لأرتمي على سريري فرحةً مضطربةً خائفةً..
لمْ يكن بستانياً ولكنه طبيبُ الزهور.. كما القلوب.. لم نتحدثْ أبداً.. لم نلتقِ أبداً.. كنتُ أخافُ أن أتجرأ وأطمع به.. وكنتُ أخافُ أكثر منْ ردةِ فعله إنْ أفصحتُ عن حقيقةِ مشاعري المرتجفة لأول مرة..
عرفتُ بأنه مغادرٌ عمّا قريب كي يُتابعَ دراسته في علمِ النباتِ.. كانَ متخصصاً في المجال ذاته.. وبهذا أغرمتُ بالحديقةِ.. لكنَّ الحسرة كانت تأكلني يوماً بعدَ الآخر.. فالصيفُ يكاد ينتهي.. ولم أعش معه إلا لحظاتٍ التقت فيها عينانا وخفق قلبي وهربَ من مجلسه خوفَ افتضاحِ أمره..
كانتْ الشمسُ محرقةً وقد قررنا الذهاب للتخييم بجانبِ البحيرةِ القريبة من التلة.. هناك، لم أتجرأ على التحرك من مقعدي فلم أرغب بتفويت أيّ لحظةٍ يكون فيها قريباً..
وعند المساءِ أصبتُ بخيبة أمل كبيرة، فلم يحدث شيء.. على الإطلاق.. فخرجتُ أتمشى تحتَ ضوءِ القمر.. لكنه كانَ هناك.. فارتكبتُ وأردتُ التراجع.. لكنه أحسّ بخنوعي فنادى علي " يا آنسة" فأجابه قلبي مبتهجاً... وأشارَ بيده أن أقترب منه.. فجلستُ لجوارهِ وحافظتُ على المسافةِ بيننا.. وساد صمتٌ غطى السماءَ ووحدهُ القمر كان يهمسُ للنجوم بأن تتوقف عن ثرثرتها كي يهيئ جواَ لنا
فقط..
"كم هي جميلةٌ سماءُ الصيف !" قالها وعيونه مغرورقة بالدمعِ.. ثم التفَ إلي قائلاً " أخافُ عليكِ سماءَ الخريفِ آنستي، فأنتِ بريئةٌ جداً وشفافةٌ جداً ولن تتحملي الأمر"
فأومأت بلا غير مستوعبة لما يقول، لكنه عاد للسماء ولم نتحدث بعدها..
سرتُ وحدي بين صفيّ الأشجار التي تعاقدت كي تكونَ مظلةً تمطرُ أوراقاً ذابلة..
كانتْ السماء خريفية بحتة.. كنتُ أسير نحو المقبرة حيث يرقد أبي.. فقد شارفت سنويته الأولى.. وحملتُ الزنبق بين يدي وأنا أتطلع للسماء من بين الأوراقُ المتساقطة..
تحولتْ الألوانُ كلها.. الخريفُ جميلٌ! مليء بالألوانِ الميتة ! ولها درجاتٌ من الموت.. فالموتُ ليس سواء.. هناكَ موتُ للأموات.. وهناكَ موتٌ للأحياء..
كانَ جسدي قد أنهكه المرضُ، ربما قد كبرتُ وهذا من أثار الكبر.. لكنَ الحقيقة التي صعبَ على الأطباء فهمها وإدراكها.. بأن قلبي ذبل.. وتعب.. أنهكه الضنك من شدةِ الشوقِ والحنينْ..
ووصلتُ المقبرة..
مسحتُ على قبر أبي وقد كان بارداً كبرودة الرياحِ حولي.. وحوله تناثرتْ أوراقُ الشجر التي تخلت عن حبيبها الجذع.. وضعتُ الزنبق جانب القبر.. وأسقطتُ بنفسي على القبر فقد تخلى عني حبيبي أيضاً.. وهكذا هو موسم الخريف.. موسمُ الفراق.. موسمُ الابتعاد..
فهل أنتظرُ الشتاء كي أموتَ ؟!
ربما أنتظر.. ففي الانتظار حياة، فالحياة ستعيدني مرةً أخرى لتلك الفتاة البريئة.. ربما سيشرقُ قلبي مجدداً بعبير الربيعِ وسيثمرُ بشمسِ الصيف..
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
المفضلات