السلام عليكم و رحمة الله
ثاني قصة لي أتمنى أن تستمتعوا بالقراءة و لا تحرموني آراءكم ^^
ألمٌ في أنبوبِ أمَل
"كان بين الرجفةِ والأخرى من رجفاتِ قلبهِ حلمٌ يصلُ إلى نهايتهِ, ورغبة تشتعلُ, ودَمٌ يدفعُ بالأطرافِ كقوة بركانٍ يتفجَّر من عشقهِ ووَلعِه... كانت خطواتٌ ثقيلةٌ تفصله عن رؤية الحقيقة التي أخفتها عنهُ..."
--------------*------------
كعادتِه, يشغل نفسهُ بتحضير فطورٍ سريع وفنجان قهوةٍ منتظراً أن تصلهُ رسالتُها. كان متعوّداً على أن تغمرَ صباحَهُ برقّتِها وبراءتِها. "ليسَ مثلكِ شيءٌ", هكذا كان يقولُ لنفسهِ كلّما رأى منها شيئاً يجعلهُ يُعجبُ بها أكثرَ يوماً عن يوم.
التقيا عبر موقعٍ لمشاركةِ الكتبِ وقراءتها, وكانت دائماً ترى تعليقهُ في صفحةِ الكتب التي تقرؤها نفسَها! كانت تحسُّ بذاك الشعورِ بأنّهما قريبانِ رغم أنّها لم تكلِّمه, بل اقتصرت على مطالعة كلِّ الكتبِ التي كان يقرؤها كتاباً كتاباً لتتعرَّف على ذوقهِ الأدبِّي بشكلٍ أقرب. ذات يوم فاجأها تنبيهٌ بأنّه "هوَ" يتابعُ نشاطاتِها على الموقع, ووَجدت أيضاً طلبَ صداقةٍ منهُ. حتماً كانت سَتقبلُ, ففُضولُها بأن تتعرَّفَ على شخصٍ يشبهها لحدٍّ ما كان يحرِّكُه وِحدتُها وحياتُها الإجتماعيَّة المعزولةُ. كانت ظروفها صعبة كفايةً لأنْ تقابلَ بشراً أكثرَ من مقابلتِها للجدرانِ البشريَّة!
مشاعِرُها... كانت تتدفَّقُ نحوهُ بكلِّ عفويَّة, فالقلبُ يحتاج قلباً آخرَ يدعمُه ولو افتراضيّاً, كانت تريد أن تتعلَّقَ به, كانت تريد أن تتعلَّق بأيِّ شيء! ما أكثر فراغَ قلبها قبلَهُ, وما أدفَأ روحَها بعدهُ, كانا يتشارَكان الآراءَ حول الكتبِ التي يقرآنِها, وكانت في قمة السعادةِ بأن تجدَ بشراً تشاركُهُ رأياً فيردُّ عليها وتردُّ عليهِ.
لم يعلَما الكثيرَ عن حياة كلٍّ منهما... كلُّ حديثهما عن الكتبِ والفكرِ والمشاعر, وكانت تعجبُهُ أشدَّ العجبِ ثقافتُها الواسعةُ بالأدباءِ والفلاسفةِ, وتلفتُ نظره لطافتُها التي دائماً ما مدَحها بها, فكانت تكتفي بوجهٍ خجولٍ ثمَّ تغيِّرُ الموضوع بسرعةٍ عبرَ ضحكةٍ صغيرة, كان ذلك يقتلُه! ليستِ المشاعرُ حِكراً على الجنسِ الرقيق, للجنس الخشنِ نصيبٌ منها كذلك! لقد تغاضى كثيراً عن تصرُّفاتها الخجولةِ بشكلٍ زائدٍ فطلب منها يوماً أن تخبرهُ السببَ, أجابَتْ:
- هل تطلبُ منّي أن لا أخجلَ من أوَّل شخصٍ عرفتُه في حياتي من البشر, ألا ترى الطفلَ يبقى بجانبِ أمِّه و يخشى أن يقتربَ من الغرباء؟
- وهل ترينَني غريباً لهذه الدرجةِ؟!
- لدرجةٍ معينةٍ, أجل, فلستَ تعرفُ كثيراً عنّي, وقد فاتَتك أشياءٌ كثيرة عن ماضيَّ بل وعن مستقبلي أيضاً.
- ألا يمكن أن ندعَ هذا الطفلَ يخرجُ إلى العالم؟
- العالمُ مكان قاسٍ عليه, لو تعلمُ!
- لكنَّنا نخرجُ إليه بيَدٍ تسحَبنا من ظلامِنا, هل تمنحينَني هذا الشرف؟
- أنا؟!
- أجل أنتِ, ومن غيركِ فعلتْ بي كل هذا, هلّا أردُّ لكِ جميلَ الحياةِ التي أحياها الآن بفضلكِ بأن أمسكَ يدكِ لأدفعَ بكِ نحو العالمِ بكلّ ثقة؟!
كعادتِها, بخجلِها ذاتِهِ ولكن بقليلٍ من الثقةِ هذه المرَّة سألتهُ:
- وما الذي قدَّمتُهُ لكَ؟ أنا لم أزِدْ على حياتكَ شيئاً لا تملكُهُ.
- بل سكبتِ الكثيرَ من الرقَّة واللطفِ في حياتي حتّى باتَ للأشياء التي أفعلُها معنًى وطعماً آخرَ, أشعرُ بالسعادة حين أنظرُ للطبيعة لأنّي أحِسُّها أُسدِلَ عليها جمالكِ فأَدخلَ في تفاصيلها وذرّاتِ ألواِنها. هذه أوّل تجربةٍ لي بهذا العنفوان, لم أشتقْ لأنثى قبلكِ ولم أرَ في غيركِ هذه الملائكيَّة الخالصة!
- لستَ تدري عن ماذا تتكلَّم!
- بل أدري جيّداً ومتأكِّد أيضاً.
هل تقولُ له أن يطَّلع على حقيقتِها وهي تعرفُ نهايةَ القصة؟! متردِّدة... نعم, ولكن لم يطاوِعها قلبُها أن تستمرَّ معه في ذاكَ الخيالِ أكثر. غابَتْ عنه فترةً طويلة, تقرأُ رسائله دون أن ترَّد عليه, تَراهُ يسأل عنها بشوقٍ ثمَّ تدوس على قلبِها بكبسةِ زرٍّ تغلقُ كلَّ شيء. ومرَّ الأسبوع كدهورٍ تتابعَت بتكرارِ آلامِها كلَّ يوم كأنّه دهرٌ جديٌد تتخبَّط فيه وحيدةً تلهثُ من قسوةِ مرضِها الذي لا يرأفُ بها لحظة واحدة. أرسلَ لها يوماً يرجوها بكلِّ ما في قلبِها من رحمة أن تخبره أين يستطيعُ أن يجدها.
- صدِّقني لا تريدُ أن تعرفَ عنّي أكثر, سيضرُّكَ ذلكَ بدل أن ينفعَك.
- أمَل... أقسمُ بأنّي لا أدري ما قد يحصلُ لي إن لم أركِ فوراً, أحتاجُ أن أفهم التفاصيلَ, لا شيءَ مما أعرفُه يقنعني, لا شيء!!
- ولكنّ الواقعَ سيؤذيكَ كثيراً, لا أتحمّلُ أن تتأذّى بسبَبي.
- لن يكون أكثرَ إيلاماً من الوضعِ الحالي. أريدُ أن أعرفَ حالاً وبدون نقاشٍ أين أنتِ؟
لا يوجُد مفرّ الآن من الإرتطامِ بعَرضِ الواقعِ الخشن. أعطتهُ عنوانَها ثمّ قالت: إذا أردتَ أن تعرفَ كلّ الحقيقةِ فاذهب إلى هناك واسأل عن الآنسة أمل فالكلّ يعرفُ من أكون هنا, ثمّ اختفت بسرعةِ مجيئِها متجنبة أيَّ سؤالٍ آخرَ.
لقد وصلَ, هنا حيثُ ارتَأتْ له الأقدارُ مستقبلاً غيرَ ما كان يعتقدُ تماماً. أخذَ الأمر منه بضعَ دقائق حتّى استوعبَ مكان وقوفِه. كان ماثِلاً أمام مستشفى كبيرٍ كُتب بجانبِ اسمه "لمرضى السرَطان". وماذا تُراها تفعلٌ هنا! أقبلَ هرِعاً إلى مكتب الاستعلاماتِ وسَأل عن "الآنسة أمَل", قالوا له بأنّها في الطابَق الثاني في الغرفةِ رقم 206. هل تزور أحدَ المرضى, هل لديها قريبٌ أو صديقٌ هنا, هل تعملُ هنا؟! وبسرعةٍ أخذَ يصعُد السلالمَ ليجد نفسه في مدخلِ الطابق, ثمّ دخلَ الممرَّ المؤدّي إلى الغرفِ. كان بين الرجفةِ والأخرى من رجفات قلبهِ حُلمٌ يصلُ إلى نهايته, ورغبةً تشتعلُ, ودَمٌ يدفعُ بالأطرافِ كقوة بركانٍ يتفجَّر من عشقِه ووَلَعِه... كانت خطواتٌ ثقيلة تفصلهُ عن رؤية الحقيقة التي أخفتها عنهُ, وكان يفصلُ الخطوةَ عن الخطوةِ سنينٌ بدأت تغربُ في عينيه كالشمسِ آفلةً, يودِّع قافلةَ ذكرياتِه التي ترامَت على طول الممرِّ. وقفَ أمام بابِ قدرِه الذي يجهلُ ما وراءه, أخذ نفساً عميقاً وطرقَ الباب. ردِّ عليه صوت خافتٌ من الداخل: تفضَّل. لم يكدْ يصدِّقُ عيناه, إنّها هي, "أمله", وأشياءٌ كثيرة تشبهُ الأنابيبَ تخرج من أسفلِ رقبتِها وذراعِها صاعدةً إلى الأكياسِ المعلّقةِ. متدثِّرةً بغطاءٍ أبيض فائقَ النقاءِ. بدتْ كأنّها نزلَتْ لتوِّها من إحدى جنانِ الخلدِ في السمواتِ, لولا أنَّ وجهها الضعيف قد شابَتهُ قسماتُ الشقاءِ الواضحةِ تحتَ عيونِها. كانت تمسكُ كتاباً بين يديها, وما إن دخلَ حتّى أغلقَت الكتاب وبدتْ عليها علاماتُ الإرتباكِ وابتسمت قائلةً بصوتٍ تُشفق منه حتّى الجماداتُ:
- كنتُ أعلم أنّ هذا اليومَ سيأتي ولم أدَّخر له من الكلماتِ ما يكفي لأشرحَ لك السبب في إخفاءِ الحقيقةِ عنكَ.. كنتُ كلَّ يومٍ أصرُّ على المضيِّ في هذا الخيالِ الذي ألتحفُه كلّ يومٍ من بردِ الواقع.
- ماذا كنتِ تريدين منّي إذاً إن كنتِ تعلمينَ حالتكِ جيّداً؟
- ماذا أريدُ؟!
لمعَتْ في عيناها نقاطُ الدمع التي تجمَّعت وتَجمَّعت حتّى نزلت دمعةٌ واحدةٌ متباطئةٌ تحاولُ يائسةً التمسُّكَ بخدَّيها لتمنع نفسها من السقوطِ, السقوطِ أمامه بكلِّ شفقةٍ وخجلٍ... كيفَ تخفي عنه.. بل كيفَ تخبرُه؟
لم تستطِع أن تتمالكَ نفسها أمامَ ترقُّبِه الشديدِ وجزعِه فقالت بصوتِها المتحشرج:
لقد كنتُ كالجدارِ الأبيضِ بفراغه وبؤسِه, وكنت أريدُ أن أحظى ولو بذكرى واحدةٍ أرسُمها عليه حتّى أقول بأنّي عشتُ حُلُماً! أنتَ لم تمنحني رسمةً جميلة فقط بل وضعتَ كلَّ الألوانِ أمامي وقلتَ لي هيتَ جداري لكِ فارسُمي!
كانت أناملُ روحكَ تصلني وتلمسُ ذاك الجزءَ في القلبِ, أتعرفُه! ذاك الذي يهتزُّ حين أنظرُ لساعتي وأرجوها أن تمشي أسرعَ قليلاً, حين أرتشفُ قهوتي وكلماتكَ تنظُرني بين هذه الجدران المملَّةِ الفارغةِ من الذكريات, لا تحملُ سوى أنفاسِ المرضِ الذي يلهثُ بوجهي ويتثاءبُ ضجراً من هذه الغرفةِ التي لا تطؤها إلا قدمُ الممرِّضة!
ربما توقّعَتْ أن يخفِّفَ عنها قليلاً, إلا أنّه حملَ نفسَه وخرج ساخطاً مغلِقاً البابَ بعُنفٍ. استوقَفتهُ الممرِّضة مستنكرةً عليه فعلَه إلا أنّه لم يلتفِت لها وتابعَ طريقه. كان يتجرَّعُ كلّ الغضب الذي نافسَ روحَه ويصبُّه في قلبه صامِتاً رامِقاً الأرضَ متطيِّراً من مكرِ الحياةِ وخداعِها. كيف لملائكيَّتِها أن تحتويَ كلّ هذا الكذبِ! هكذا, وبكلّ بساطةٍ, أسدلَت أمامَ عينيه ستارِها الأبيضَ فأغشَتْهُ, وهو لنقائِه لم يَرَ فيه إلا هذا اللونَ. لماذا جعلته يتعلَّقُ بها كلّ تلك المدةِ حتّى أصبحتْ تفاصيلُها معقودةً على جميعِ أطرافِ قلبه فلا ينفكُّ منها إلا إذا قطَّعَها تقطيعاً قد يهوي به في خنادقِ قلبه المتصدِّع!
لم يعد يكلِّمها, لم يعُد يزيِّنُ صباحَها بكلمةٍ تشعلُ في نفسها ألفَ "أمَل"! أخرجَها من كلِّ جوارحِه وتجاهَلها كأنَّه وحدَه الذي يَشقى! تناسى أنَّه خلَّف وراءَه قلباً مبتوراً من كلِّ مقوِّماتِ الحياةِ!
مرَّت عدّة شهورٍ, تماثَلتْ نفسُه فيها للهدوءِ, وعادَ يسترجعُ ذكرياتِه معها, تملَّكه شوقٌ مفاجِئ لها, لضَحكتِها, لحيائِها, لحروفِها, افتقد اسمَها الذي يناديها به, "أمل", فتسرع لتردَّ عليه بكلِّ لهفةٍ. أحسَّ بالخجلِ من الطريقةِ التي واجهَها بها هناك, رغم علمِه بمرضِها وضعفِها فقد كسرَ هناك شيئاً أكثر من مجردِ علاقة! هل يمكن أن تغفرَ له زيارةٌ يقدِّمُ فيها اعتذاره؟ أجل بالطبع, فقلبُها النقيُّ لا يعرفُ الحقدَ في أيَّة ظروف.
وقفَ بضعَ دقائق أمام المستشفى, ممسِكاً باقةَ ورودٍ حمراء, ثمّ صعدَ ذات السلالِم, كأنَّه رأى الممَّر ذاتَه يرمُقه ببغضٍ كأنَّه غيُر مرحَّب به, ويَطلبُ منه أن يعودَ أدراجَه فلم يبقى له شيءٌ هنا سوى قلبٍ كسير.
وقبلَ أن يمسكَ مقبض الباب سمع صوتَ صراخٍ عالٍ يخرجُ من الغرفة... وفجأةً فُتح وخرجت منه ممرضةٌ مسرعة, ولمحَ من الشقِّ الذي تركَته خلفَها "أمَلَه" تمسكُ بها ثلاثةُ ممرِّضاتٍ بينما تصرخُ بقوَّة و تدفعُهم بعيداً عنها. هرع إلى الممرِّضة بخطىً متعثِّرة, ولحقَ بها إلى حيثُ تحضِّر دواءَ أمل وقال بصوتٍ مرتجف:
- ما..ما الذي حلَّ بها؟
- هل أنتَ أحدُ أقربائها؟
- نعم نعم, أرجوكِ أخبريني ماذا أصابَها؟
- هذا من آثارِ الدواء الذي تُعالَج به, إنَّه العلاج الكيميائيُّ كما تعلَم!
لم يدرِ في هذه اللحظةِ أشرايينُها التي تتقطَّع من الدواءِ أم شرايينُه! كم يمكنُه أن يتحمَّل هذا الصراخَ وقلبُه يفيضُ من الدمعِ المالح في دمِه فيُحسَّ طعمَه في فمِه!
- من فضلكَ يا سيِّدي أن تنتظرَ خارجاً في القاعةِ المخصَّصة للزوّار. وأخذَتْ تجري حاملةً دواءَ أمل الذي لا يفعلُ إلا أن يقطِّعَ في روحِه أكثر!
مرَّت ساعاتٌ طويلة, كان بانتظارِ خبرٍ من الممرِّضة, ولم يَفِقْ إلا بعد أن أحسَّ بصوت الحارسِ يطلبُ منه المغادرة فقد انتهى وقتُ الزيارة. عادَ إلى بيتِه بخيبةٍ وحسرةٍ تأكل كلَّ شبر من جسدِه, كأنَّها هي نفسُها دواءُ أمل ولكن بشكلٍ آخر! عاد يتصفَّح رسائلها, يقرأ كلَّ حرفٍ كتبتهُ وأمضى ليلَه هكذا حتّى غرقَ في النومِ فوق حاسوبِه. استيقظَ كالمقطوعِ من الزمن, وهرعَ إلى سيارته مسرِعاً إلى المشفى, جلسَ في قاعة الإنتظارِ طويلاً ينتظرُ أن يأتيه خبرٌ عنها, لم يدُم انتظاره هذه المرَّة سوى نصفِ ساعة, حين رأى الممرِّضة تتوجَه نحوه, كانت ملامِحها باردةً لا توحي بنوعِ الخبرِ الذي تحملًه, سألتهُ:
- ألستَ أنت قريبَ المريضةِ 206؟
- 206! تقصدين "أمل".. بلى, هل من جديدٍ؟
- عظَّم اللهُ أجرَكُم يا سيّدي, يجبُ أن ترسِلوا وليَّ أمرِها ليستلمَ الجثَّة ويقومَ بالإجراءاتِ اللازمة.
لا... لا.. لم يكن ما سمِعهُ صَحيحاً، بالتأكيدِ حدثَ سوء فهمٍ, لربَّما أخطأتْ برقمِ الغرفة! ولكنَّ الخبرَ بدأ يظهر له حقيقةً مع خطواتِ الممرِّضة تبتعدُ لتعودَ إلى مكتبِها!
كيف لم تجعلي لي فرصةً حتّى لوداعِك... كيفَ ستغفرينَ لي الآن هذا الجفاَء وقد رَحلَتْ عنكِ روحكِ السمحَةُ الرقيقةُ كصفحة الماءِ ولم يبقى سوى جسدكِ المتخشِّب, كيف سأرى ابتسامتكِ تبرقُ في وجهك فأتأكَّد أنّكِ راضيةٌ عني... كانت الأنابيبُ أقربَ إلى قلبكِ منّي, كانت تحملُ لكِ الشفاءَ بكثيرٍ من العذابِ, أمّا أنا فحملتُ لكِ العذابَ بكثيرٍ من السقم!
ترى هل كان الدواءُ حين يتغلغلُ في دمِك يتلفُ ذكرياتكِ أيضاً؟ هل كان يجبُ عليكِ إذ أردتِ نسياني أن تُحرِقي شرايينكِ؟ هل عَلقتُ لهذه الدرجةِ بجسدكِ الطاهرِ حتّى تغادِرهُ الطهارةُ زاهقةً تصرخُ في سريرٍ مثل أسرَّةِ الملائكةِ! أهذا لعظمِ الذنبِ الذي ارتكبتُه فيكِ, فتخلَّيتُ عنكِ حين تسربَتِ الجماداتُ في نقاطِ دمكِ؟! رحلتِ بنقاءٍ لم تبقَ معه ذرَّةُ ذنبٍ في جَسدكِ إلا تفتَّتتْ, وتركتِ ليَ الشعورَ بالذنبِ إلى الأبد لأتحمَّله وحديَ هذه المرَّة, بدون مواساتكِ, بدون ابتسامتكِ, وبدون روحي أيضاً! رحمكِ اللهُ يا عزيزتي.. ماذا أفعلُ بجثمانكِ الآن! من يتولّى أمركِ بعد أن تخلّى عنكِ الجميعُ سوى جمعيةٍ تقومُ بتسديدِ تكاليف علاجكِ! يبدو أنَّ القدرَ اختارَني لأصعبِ مهمةٍ يمكن أن يمتحنَ فيها صبُر إنسانٍ... أن يَدفنَ عزيزاً على قلبِه بيديهِ, ثمَّ لا يجدُ في عزائِه شخصاً واحداً يهتمُّ لأمرِ فقيدِه! كم حُرمَ العالمُ من براءتِك ولطفِك! كم خسروا حين فاتَتهم لحظاتُ ابتسامِكِ... كأنَّ السماءَ بسكّانها كانت تضٍحكَ معها وتُسَرُّ.
فلترقُدي بسلامٍ... فإنّي سأقومُ على قبركِ ما دمتُ حيّاً حتّى ألحقَ بكِ في أحدِ الأيام, وسأوصي بدفني هُنا.. بجانبكِ, فإن لم أتمتَّع بقربِك في الدنيا لا شيء يمنعُ أن أحسَّ بأنفاسِكِ تحتَ هذا الترابِ, و ستكونين روحيَ الراحلةُ نائمةً بجانبي, وإنّي لأعلَم أنّك تبتسمينَ.
تَمّت
--------------*------------
6-10-2012
أفنانـْ
المفضلات