النمط الوصفي
أتناول في هذا الموضوع النمط الوصفي بأنواعه الأساسية
ما بين وصف داخلي وآخر خارجي
وما بين وصف موضوعي/تقريري وآخر ذاتي/وجداني
فتابعوا معنا
بسم الله الرحمن الرحيموصف الأشياء كما هي، بتجرد ودقة، هو وصف موضوعي. أما وصفها وفق مشاعرنا وأحاسيسنا تجاهها، فهو وصف وجداني.
وكل من الوصفين له مؤشراته الخاصة به، ولا يجوز دمج الوصف تحت عنوان واحد، إذ إن الوصف الوجداني يقتضي استخدام التشابيه والاستعارات، وهي دليل قوة من الواصف، بينما وجودها في الوصف الموضوعي دليل ضعف من الواصف، والوصف الوجداني يسمح للكاتب بتسجيل مشاعره وعواطفه الخاصة، بل يوجب ذلك، وإن غاب ذلك من الوصف الوجداني، كان ضعفًا من الواصف، ونقصًا في التعبير، بينما يُعتَبر تسجيل المشاعر والعواطف الخاصة ضعفًا في الوصف الموضوعي، وبشكل عام فإن مؤشرات الوصف الموضوعي تُعتَبر جزءًا من مؤشرات الوصف الوجداني.
وإليكم هذه المقارنة للنمط الوصفي، بنوعيه الموضوعي والوجداني.
نبتدئ بمؤشرين مشتركين ما بين الوصف الموضوعي/التقريري/ العلمي، والوصف الوجداني/الذاتي/العاطفي، وهما:
أولًا: كثرة الصفات على أنواعها.
ثانيًا: أدوات الربط المتعلقة بالمكان (أمام، وراء، فوق، تحت، يمين، يسار، حيث...)
وقبل أن ننتقل إلى المؤشرات المتعارضة ما بين الوصف الموضوعي، والوصف الوجداني، وجب أن نذكر ملحوظتين مهمتين:
الأولى: إن الصفات تشمل (النعوت، الأخبار، الأحوال).
الثانية: يتعلم الصغار بالإعراب أن الصفة هي النعت، وهذا صحيح، ولكنه ليس بدقيق 100%، ذلك أن النعت هو للصفات المتغيرة التي لا تثبت، بينما الصفة هي للصفات المتغيرة والصفات الثابتة على حد سواء، ومن هنا؛ الصفة أشمل من النعت.
تابعوا معنا
أما الفوارق في مؤشرات النمطين الوصفي الموضوعي والوصفي الوجداني
فتتلخص وفق ما يأتي:
أولًا: ضمير الغائب في الوصف الموضوعي، يقابله ضمير المتكلم في الوصف الوجداني.
ثانيًا: تغلب في النمط الوصفي الموضوعي الجمل الاسمية، وكذلك الأفعال الماضية، بينما يغلب في النمط الوصف الوجداني الجمل الفعلية المضارعة.
ثالثًا: يغلب في الوصف الموضوعي الأسلوب الخبري، ويغلب في الوصف الوجداني الأسلوب الخبري المؤكد والأسلوب الإنشائي
رابعًا: لدينا في الوصف الوجداني مشاعر الواصف وأحاسيسه تجاه ما يصف، وليس ذلك في الوصف الموضوعي.
ونشير هنا إلى الملحوظة الآتية:
إن المقصود بمؤشر الأفعال الماضية ما كان ضمن الوصف نفسه، مثل: (ارتفعت أعمدتها، طاولت السحاب)، أما إن كان التلميذ يمزج بعض السرد بالوصف في موضوعه، كأن يقول: (قررتُ الذهاب في رحلة إلى أثر سياحي)، فالفعل الماضي هنا لا علاقة له بالمؤشرات.
والأمر ذاته بالنسبة إلى سائر المؤشرات على غرار الأفعال المضارعة وضمير المتكلم...
تابعوا معنا
ما قدمناه هو من صلب المفهوم الاصطلاحي للنمط الوصفي، غير أني أردتُ التنبيه إلى أن النمط الوصفي في المرحلة الثانوية (في لبنان) لا يخضع للتقسيم، بل هو وصف واحد، تتمثل مؤشراته في ما يأتي:
أ_ كثرة الصفات على أنواعها: النعوت، الأحوال، الأخبار.
ب_ أدوات الربط المتعلقة بالمكان: حيثُ، أمام، خلف، فوق، تحت...
ملحوظة: وقد تُذكَر الأمكنة مباشرة من دون الظروف، مثل (السماء، الأفق، المنزل، الحديقة، القصر)...
ج_ كثافة التصوير البياني، باستخدام التشابيه والاستعارات.
ملحوظة: يمكن استخدام مفاهيم اصطلاحية أخرى، على غرار (غلبة التعبير المجازي)، وفي حال استخدم الكاتب (الكناية) فإنها تدخل ضمن هذا المؤشر.
د_ بروز ذاتية الواصف من خلال استخدام ضمائر المتكلم.
ملحوظة: تؤدي ضمائر المخاطب؛ في حال وجودها؛ الدور ذاته.
هـ _ تنوع الأساليب في الوصف بين الخبري، الخبري المؤكد، الإنشائي.
و_ الأفعال المضارعة الدالة على الحيوية والتجدد والاستمرار.
ز_ الجمل الاسمية الدالة على الثبات والتعريف والإيجاز.
ملحوظة: تؤدي الأفعال الماضية؛ في حال وجودها؛ الدور ذاته.
وإلى التطبيق العملي لاحقًا إن شاء الله تعالى.
وهذا مثال من الوصف الوجداني، وتقتضي الأمانة أن أذكر أنه ليس من تأليفي الشخصي، بل قرأته مرة على الإنترنت، وأظنه لأخت اسمها (سماح بتي)، وأخذت منه بتصرف:
خلوتُ نفسي ذات يوم أتأمل الطبيعة الزاخرة، لأجد نفسي في أحضان غابة كبيرة مفروشة ببساط طبيعي أخضر مليء بالأزهار مختلفة الألوان، فأعجبتُ بهذا المنظر الطبيعي الخلاب، تقدمتُ فسمعتُ زقزقة عصافير مريحة فطربتُ لألحانها، فتتبعتُ الصوت، فإذ بي أرى نهرًا مرتميًا في أحضان الغابة، به أسماك متلألئة ترقص على أنغام السكون بين مياهه العذبة الدافئة، محاطة بالورد العطر الذي يزين المكان لتكتمل الطبيعة ببهاء الأشجار متطاولة الشكل لتتعانق السحب وتمطر السماء فيتنفس الوجود وتغتسل الأشجار من حَرِّ الصيف، ولتستقبل الربيع بكل لهفة، يا له من يوم جميل! لقد رأيتُ فيه من عظمة خلق الله في لوحة فنية تنعش النفس...
وسأحوِّل هذا الوصف إلى وصف موضوعي، ليكون كما يأتي:
خلوتُ بنفسي ذات يوم أتأمل الطبيعة الزاخرة، لأجد نفسي في غابة كبيرة مفروشة ببساط طبيعي أخضر مليء بالأزهار مختلفة الألوان، تقدمتُ فسمعتُ زقزقة عصافير مريحة، تتبعتُ الصوت فإذ بي أرى نهرًا به أسماك، تسبح في مياهه، محاطة بالورد، ثم تجمعت السحب وأمطرت السماء ليزول حر الصيف.
من الممكن؛ إذًا؛ استخدام ضمير المتكلم في الوصف الموضوعي، ولكن؛ بما أننا لا نعرض مشاعرنا وأحاسيسنا، فإن ضمير الغائب هنا هو المؤشر: "غابة مفروشة، مليء، محاطة، تجمعت..." بينما في النص الأول، الوصف الوجداني، ضمير المتكلم هو المؤشر "خلوتُ، أتأمل، نفسي، أعجبتُ...".
في النص الأول (الوصف الوجداني)، نلحظ وجود التشابيه والاستعارات، بينما لا نستطيع استخدامها في الوصف الموضوعي، كما أننا نلحظ في النص الأول (الوصف الوجداني) وجود مشاعر الكاتبة وعواطفها الخاصة، ولا يجوز ذلك ضمن الوصف الموضوعي.
ملحوظة:
هناك نوعان آخران من الوصف، لكن لا يندرج تحتهما أي مؤشر، وهما: الوصف الداخلي، والوصف الخارجي، وتعريفهما؛ ببساطة، أنه إذا طُلِبَ منا أن نصف المدرسة مثلًا، ونحن نقف خارجًا، فإن الوصف سيكون وصفًا خارجيًا، بينما لو طُلِبَ منا أن ندخلها ونصفها، فإن الوصف سيكون وصفًا داخليًا، والنظر هنا هل وصفناها بتجرد أم وفق مشاعرنا الخاصة، لنحدد هل الوصف موضوعي أم وجداني.
أما في وصف الإنسان، كأن نطلب من التلميذ وصف إنسان يحبُّه داخليًا وخارجيًا، فالوصف الداخلي هنا يشمل الصفات التي يتمتَّع بها (الكرم، الطيبة، الحنان...)، والوصف الخارجي يشمل الشكل والمنظر (طويل القامة، قصير القامة، عيناه صغيرتان، شعره قصير...).
نموذج من الوصف الوجداني: (نص: مطالعات ريفيَّة، للكاتب: أمين نخلة، طُرِح في دورة 2007 الإكمالية الاستثنائية للثانوي الثالث إنسانيات):
1_ خريرُ المياهِ قصيدةٌ في المديح، ليس وراءَها مديحٌ مُرقِص! فلَعمرُكَ ما التقتِ الشفاهُ على قصيدةٍ هي أحلى ممَّا يَتَنَعَّمُ به الماءُ في خريرِه، مادحًا نَفسَه، شاديًا بفضلِ وجودِهِ على جذورِ الشجرِ وذرَّاتِ التراب.
2_ والحمدُ لله! فإنَّ النهرَ يغادرُ حدودَ قريتِنا، ولا ينقلبُ إلى وراء... فلقد خَفَفْنَ إليه من الصبح، وهو في بعضِ عطفاتِه... وغَسَلْنَ فيه الثيابَ البيض، وذَهَبَ النهرُ من هنالك بألفِ قصَّة.
3_ وعلى بابِ الطاحونِ لا بدَّ للدربِ من أن تتوقَّفَ عنِ المضي! فهناك موسيقى الرَّحى، هناك الشَّميمُ المنعش، الذي يعبقُ من الباب، فتحومُ الطيرُ على طيبِ الرائحة، وهي لا تعرفُ أَين تدورُ "الدوائرُ" على الحَبِّ المشتهى...
4_ ويا طالما قلْتَ، في نفسِك، بين يَدَيِ الأزاهرِ الريفيَّةِ التي تبرحُ مكانَها، ولا تعرفُ أَنتَ أَسْماءَها: جادَها الله، أَو الغيث! فهي أَشْبَهُ ما تكونُ بالجمالِ المضنونِ به على غيرِ أَهلِه! وعلى الحقيقةِ إِنَّ عصرَ المداواةِ بالزهرِ كان عصرًا شهيًّا. كان بالأَرَجِ يُداوى، وبالمَلاحةِ يُطيَّب، وكان صاحبُ العلَّةِ منَ الناسِ يُقبلُ على الطبيعة، وهي قائمةٌ على ساقِها، لا كما نفعل، نحن اليوم، إِذْ هي طحينٌ في علبة، أَو عجينٌ في حُقٍّ، أَو سائلٌ في قنِّينة! عَصْرٌ "زهريٌّ" سقاهُ الله!... بُدِّلْنا به عصرًا كيماويًّا، تستقبلُك فيه روائحُ العلَّةِ على بابِ الصيدليَّة.
5_ والورد، وهو الذي حرَّمَه المتوكل على الناس وقَصَرَه على نفسه.
جاء في "تأْهيل الغريب": "وكان يقول: أنا ملكُ السلاطين، والوردُ ملكُ الرياحين، فكلٌّ منَّا أَحَقُّ بصاحبِه". وفي "حِليةِ الكُمَيْت": "فكان لا يُرى الوردُ إلا في مجلسِه، وكان أَيَّامَ الوردِ لا يلبسُ إِلا الثيابَ المورَّدة، ويفرشُ الفُرُشَ المورَّدَةَ ويورِّدُ جميعَ الآلات". ومن قولِه مخاطبًا الورد:
عارٌ عَلَيَّ بِأَنْ يَشُمَّكَ ساقِطٌ --- أوْ أنْ تَراكَ نَواظِرُ البُخَلاءِ
6_ والإوز! لله ما أطرب أصواتَها النحاسيَّة على الماء! فَقُلْ في ذلك: أبواقٌ عسكريةٌ ينفخُ فيها من لا يعرف النغم! ففي الريف أبواقٌ للعسكر ولا عسكر، والحمدُ لله.
7_ وما عسى أَن يُقالَ في خيَّاطةِ القرية؟! وهي التي تُلبِسُ العروسَ آيةَ العرسِ بيضاءَ أَو زرقاءَ أَو حمراءَ أَو لازَوَرْديَّة. فكأَنَّ بيتَها العامرَ بيتُ قوسِ قُزَح.
8_ وفي الشجرِ الذي التقى ونورَ الشمس، بجوارِ الرابية، أسعد ملتقى، وقد جلسْتَ أَنت، من ذلك، منظرَ العين، وكرَّرْتَ النظرَ في حدائق الخُضْرَة، تُحِسُّ روح الريف! فَجَمالٌ يملكُهُ الله وحدَهُ، ودوامٌ لا ينقطعُ، وخيرٌ لا يفنى.
9_ ثم تنظر حولك، فكأنما أصابعُ خفيَّةٌ قد أومَأَتْ إليك، تريد منك في حضرة الجمال، أن تتحرك، فلا تصدق! أصابعُ تُومِىءُ إليكَ، ولا أحد يطلب منك أن ترقص من فرط الطرب...
توظيف النمط الوصفي في هذا النموذج (بإعداد شخصي مني):
نرى، في هذا النص، بروز مؤشرات النمط الوصفي على تنوعها، وهذا دليل نجاح الواصف، حينما يستطيع توظيف كافة المؤشرات، مع غنى في الشواهد:
أ_ كثرة الصفات على أنواعها:
النعوت: مديحٌ مرقِص، الأزاهرِ الريفية، بالجمال المضنون، عصرًا شهيًا...
الأحوال: مادحًا، شاديًا، و(هو في بعض عطفاته)، و(هي قائمة)...
الأخبار: خريرُ المياه قصيدةٌ، قصيدةٍ هي أحلى، القمصان الرقاق، الشميم المنعش، الحب المشتهى...
ب_ أدوات الربط المتعلقة بالمكان: وراءَها، وراء، هنالِك، بين يَدَي...
ج_ كثافة التصوير البياني باستخدام التشابيه والاستعارات والكنايات: يتنعم الماء مادحًا نفسه، شاديًا بفضل وجوده، التي لا تواري كنوز الأبدان، الطير لا تعرف، هي أشبه ما تكون بالجمال المضنون، تستقبلك فيه روائح العِلَّة على باب الصيدلية، أصوات الإوز أبواقٌ عسكريةٌ، كأن بيتها العامر بيت قوس قزح...
د_ بروز ذاتية الواصف من خلال استخدام ضمائر المتكلم: قريتَنا، نفعل، نحن، بُدِّلنا...
وضمائر المخاطَب: فلعمركَ، قلتَ، نفسكِ، تعرف، أنتَ، إليكَ، حولكَ...
هـ_ تنوع الأساليب في الوصف بين:
الخبري: خرير الماء قصيدة في المديح، هناك موسيقى الرحى، هناك الشميم المنعش، فتحوم الطير على طيب الرائحة، كان صاحب العلة من الناس يقبل، بُدِّلنا به عصرًا كيماويًا، حرَّمه المتوكل على الناس...
والخبري المؤكد: إن النهر يغادر حدود قريتنا، فلقد خففنَ إليه وغسلْنَ فيه، إِنَّ عصرَ المداواةِ بالزهرِ كان عصرًا شهيًّا، فكان لا يُرى الوردُ إلا في مجلسِه، وكان أَيَّامَ الوردِ لا يلبسُ إِلا الثيابَ المورَّدة...
والإنشائي: لعمرُكَ ما التقتِ الشفاه على قصيدة، جادها الله أو الغيث! ما أطرب أصواتَها النحاسيَّة على الماء! وما عسى أَن يُقالَ في خيَّاطةِ القرية؟!...
و_ الأفعال المضارعة الدالَّة على الحيوية والتجدد والاستمرار: النهر يغادر حدود قريتنا، الشميم المنعش يعبق من الباب، فتحوم الطير على طيب الرائحة، هي لا تعرف أين تدور الدوائر، يفرش الفرش المورَّدة، تُلبِسُ العروسَ آيةَ العرس...
ز_ الجمل الاسمية الدالَّة على الثبات والتعريف والإيجاز: خريرُ المياهِ قصيدةٌ في المديح، هي أشبه ما تكون بالجمال المضنون، أبواق عسكرية ينفخ فيها...
نموذج ثانٍ من الوصف الوجداني: (نص: مناجاة القمر، للكاتب: مصطفى لطفي المنفلوطي، طُرِح في دورة 2011 العادية للثانوي الثالث إنسانيات):
1_ أيها الكوكب المطلُّ من علياء سمائه، أأنت عروس حسناء تشرف من نافذة قصرها، وهذه النجوم المبعثرة من حولك قلائد من جمان؟ أم ملك عظيم جالس فوق عرشه، وهذه النيِّرات حُورٌ وولدان؟ أم فصٌّ من ماس يتلألأ، وهذا الأفق المحيط بك خاتم صيغ من الأنوار؟ أم مرآة صافية، وهذه الهالة الدائرة بك إطار؟ أم عينٌ ثَرَّةٌ من الماء، وهذه الجداول جداولُ تتدفق؟ أو تنور مسجر، وهذه الكواكب شرر يتألق؟
2_ أيها القمر المنير: إنك أَنَرْتَ الأرض، وهادها ونجادها، وسهلها ووعرها، وعامرها وغامرها، فهل لك أن تشرق في نفسي فتنيرَ ظلمتَها، وتبدِّدَ ما أظَلَّها من سُحُبِ الهموم والأحزان؟
3_ أيها القمر المنير: إن بيني وبينك شبهًا واتصالًا، أنت وحيد في سمائك، وأنا وحيد في أرضي، كلانا يقطع شوطه صامتًا هادئًا منكسرًا حزينًا، لا يَلْوِي على أحد، ولا يُلْوِي عليه أحد، وكلانا يبرز لصاحبه في ظلمة الليل فيسايره ويناجيه، يراني الرائي فيحسبني سعيدًا لأنه يغترُّ بابتسامة في ثغري، وطلاقة في وجهي، ولو كُشف له عن نفسي، ورأى ما تنطوي عليه من الهموم والأحزان، لبكى لي بكاء الحزين إثر الحزين، ويراك الرائي فيحسبُكَ مغتبطًا مسرورًا، لأنه يغترُّ بجمال وجهك، ولمعان جبينك، وصفاء أديمك، ولو كُشِفَ له عن عالمك لرآه عالَمًا خرابًا، وكوكبًا يبابًا، لا تهبُّ فيه ريح ولا يتحرَّك شجر، ولا ينطق إنسان، ولا يبغم حيوان.
4- أيها القمر المنير: كان لي حبيب يملأ نفسي نورًا، وقلبي لذة وسرورًا، وطالما كنتُ أناجيه ويناجيني بين سمعكَ وبصركَ، وقد فرَّقَ الدهر بيني وبينه، فهل لك أن تحدِّثَني عنه وتكشفَ لي عن مكان وجوده؟ فربَّما كان ينظر إليك نظري، ويناجيك مناجاتي، ويرجوك رجائي، وها أنذا كأني أرى صورته في مرآتك، وكأني أراه يبكي من أجلي كما أبكي من أجله، فأزداد شوقًا إليه، وحزنًا عليه.
5_ أيها القمر المنير: ما لي أراكَ تنحدرُ قليلًا قليلًا إلى الغروب كأنك تريد أن تفارقني؟ وما لي أرى نورك الساطع قد أخذ في الانقباض شيئًا فشيئًا؟ وما هذا السيف المسلول الذي يلمع من جانب الأفق على رأسك؟ قف قليلًا لا تغب عني، لا تفارقني، لا تتركني وحيدًا، فإني لا أعرف غيرك ولا آنس بمخلوق سواك.
6_ آه! لقد طلع الفجر ففارقني مؤنسي، وارتحل عني صديقي، فمتى تنقضي وحشة النهار، ويقبل إليَّ أنس الظلام؟
توظيف النمط الوصفي في هذا النموذج (بإعدادي الشخصي):
أ_ كثرة الصفات على أنواعها:
النعوت: عروس حسناء تشرف، خاتم صيغَ، الهالة الدائرة، عظيم جالس، أنت وحيد، أنا وحيد...
الأحوال: صامتًا، هادئًا، منكسرًا، حزينًا، وحيدًا...
الأخبار: أأنت عروس، هذه قلائد، هذه حور، ملك عظيم، أنت وحيد...
ب_ الظروف الدالَّة على المكان: علياءِ سمائه، نافذة قصرها، الأفق المحيط بك...
ج_ كثافة التصوير البياني باستخدام التشابيه والاستعارات: أأنت عروس حسناء، تشرف من نافذة قصرها، وهذه النجوم المبعثرة من حولك قلائد من جمان، ملك عظيم جالس فوق عرشه، وهذه النيِّرات حُورٌ وولدان، كلانا يقطع شوطه هادئًا صامتًا، كلانا يبرز لصاحبه فيسايره ويناجيه، هل لك أن تحدثني...
د_ بروز ذاتية الواصف من خلال استخدام: ضمائر المتكلم: نفسي، بيني، أنا، كلانا، يراني، فيحسبني... وضمائر المخاطَب: أيها، أأنتَ، إنكَ، أنرتَ، لكَ، تشرقَ، تنيرَ، أراكَ...
هـ_ تنوع الأساليب بين: الخبري: أنت وحيد في سمائك، وأنا وحيد في أرضي، كلانا يقطع شوطه صامتًا، كلانا يبرز لصاحبه في ظلمة الليل، يراني الرائي فيحسبني سعيدًا، ويراك الرائي فيحسبُكَ مغتبطًا مسرورًا،كان لي حبيب يملأ نفسي نورًا... الخبري المؤكد: إن بيني وبينك شبهًا واتصالًا، لأنه يغتر بابتسامة في ثغري، لأنه يغتر بجمال وجهك... الإنشائي: أأنت عروس حسناء تشرف من نافذة قصرها، وهذه النجوم المبعثرة من حولك قلائد من جمان؟ أم ملك عظيم جالس فوق عرشه، وهذه النيِّرات حُورٌ وولدان؟ أيها القمر المنير، ما لي أراكَ تنحدرُ قليلًا قليلًا إلى الغروب كأنك تريد أن تفارقني؟ وما لي أرى نورك الساطع قد أخذ في الانقباض شيئًا فشيئًا؟ قف قليلًا، لا تغب عني، آه! فمتى تنقضي وحشة النهار ويقبل إليَّ أنس الظلام؟
و_ الأفعال المضارعة الدالَّة على الحيوية والتجدد والاستمرار: تشرف من نافذة قصرها، فص من ماس يتلألأ، جداول تتدفق، شرر يتألق، تشرق في نفسي فتنير ظلمتها...
ز_ الجمل الاسمية، والأفعال الماضية، الدالَّة على الثبات والتعريف والإيجاز: أأنت عروس حسناء؟ وهذه النجوم المبعثرة من حولك قلائد، خاتم صيغَ من الأنوار، إنك أنرتَ الأرض، قد أخذ في الانقباض، لقد طلع الفجر...
المفضلات