تعالوا نصرخ!

وقبل أن أخبركم ماذا قال لي الأستاذ، ولم اتسعت عيناي دهشة، وجب أن أخبركم؛ أولًا؛ من يكون (هيباشوشا) الذي سألني عنه المرة الماضية!
إنه، وبكل بساطة، ويليام فريدريش هرتشل، مكتشف كوكب (زحل)!
ولا أعلم، إلى الآن، بعد كل هذه السنوات الطوال، ولا أظنني سأعلم يومًا، ما الرابط بين ويليام فريدريش هرتشل، وهيباشوشا هذا!!
فلنرجع إلى حكايتنا، ما أزال أذكر الدهشة التي أصابتني، مع نظرة الأستاذ اللائمة لي، وكلامه المعاتِب:

_ يا عيب الشوم عليك، ألا تستحي على دمك؟
إنه سيناريو اليوم الماضي بالضبط! المسرحية تتكرر! يا لسعادتي!
ومع أنني أعرف الإجابة، وجدت نفسي أسأله بحذر: (لعله يقصد شيئًا آخر):
_ لماذا يا عيب الشوم عليَّ يا أستاذ؟
رد الأستاذ بصوت يمتلئ حماسة وثقة:
_ أنت تعرف نفسك، ما من داعٍ لتظهر نفسك بمظهر الغشيم!!
ما شاء الله! يبدو أن الأستاذ هو الذي يظن أننا ما نزال أمس، لا أنا!!
سألته، متوقعًا الإجابة، وموقنًا بها:
_ لماذا؟
أجاب ممتعضًا:
_ خمس سنوات وأنت بالصف ذاته؟ أليس في عقلك بعض الفهم حتى تعرف كيف تنجح؟ هل من الضروري أن يبلوني الله بك كل سنة؟!
ما أجمل هذا الفاصل الهزلي! لكن مشكلتي أنني لا أطيق الروتين، لذا كان لا بد من تغيير درامي في نص الحوار، ومن هنا، أجبتُ بحزن شديد:
_ وماذا بيدي لأفعله يا أستاذ؟ عقلي لا يستطيع استيعاب الدروس، وأكره المدرسة، لكن الوالد يرفض أن يتركني أخرج منها، ولو أعدت كل صف عشر مرات لا خمسًا!
رد الأستاذ بغضب:
_ لا يجوز هذا! هذا يسبب تعبًا للأساتذة في التعامل مع من هم مثلك!! على والدك أن يخرجك من المدرسة لتتعلم لك مصلحة!
هتفت بحماسة مفتعلة:
_ ليتك تقنعه بهذا!
نظر إليّ بعض الوقت بصمت، ثم سألني صارخًا:
_ ما اسم والدك وماذا يشتغل؟
أجبتُه عن سؤاله، لينظر إليَّ في ارتياب شديد، وكأنه لم يسمع باسم والدي من قبل، مع أنهما زميلان في الثانوية نفسها، ومنذ سنوات طوال...
والغريب العجيب أن الأستاذ سألني في اللحظة التالية عن أخي، ذاكرًا إياه بالاسم وفي أي سنة جامعية الآن!
ولإضفاء بعض الحيوية على هذا المشهد المسرحي، غيرت إجابة أمس بالكامل، لأقول بحماسة:
_ أخي لم يدخل الجامعة، بل سافر ليشتغل مهندسًا في إيطاليا!
وكيف ذلك؟ أنا نفسي لا أعلم! هل هناك شخص لا يدخل الجامعة، ويشتغل مهندسًا بعد ذلك، وفي إيطاليا نفسها؟!
ولكن الأستاذ اقتنع بما قلته له، فهتف مستبشرًا:
_ برافو عليه! وعقبى لك تضع عقلك في رأسك لتدرس وتشتغل مهندسًا في إيطاليا أنت الآخر!
صحت برعب لهذا الافتراض المخيف:
_ لا، أعوذ بالله، لا أريد أن أشتغل مهندسًا، بل صحافيًا، لأن...
قاطعني بصرامة:
_ اشتغل مهندسًا، صحافيًا، بطيخًا... المهم أن تشتغل!!
أشتغل بطيخًا؟! هل يمكن لبني آدم أن يشتغل بطيخًا؟! يبدو أننا في زمن العجائب المنقرضة مع هذا الأستاذ، والله أعلم!
ظننتُ، واهمًا، أن الفصل المسرحي قد انتهى هنا، مع إشارة الأستاذ لي لأرجع إلى مكاني، ففعلتُ ذلك، لكني؛ وما كدتُ أستقر في مقعدي؛ حتى أشار الأستاذ نحوي، كما فعل أمس تمامًا، فقلتُ له بسرعة:
_ عمر قزيحة.
لينفجر بي صارخًا بغضب:
_ من سألك؟!
هتفت بدهشة:
_ ماذا إذًا؟!
رد الأستاذ متضايقًا:
_ أسألك عن اسمك!
هتفت به متهكمًا:
_ بِجَد؟!
صاح الأستاذ غاضبًا:
_ هل هناك من يسألك عن اسمك مزاحًا؟! ما لي أراك بليد الفهم اليوم؟!
لا، لا، لا! هذا فاصل مسرحي مميز! لم يسبق له مثيل فيما يبدو!
ذكرتُ اسمي مجددًا للأستاذ، ليهتف بي متوسلًا:
_ ارحمني أرجوك! وافهم ما أقول! دعك من عمر هذا وأخبرني عن اسمك!
كيف سألتَني عن أخي إذًا ما دمتَ لا تعرف من أنا؟! أجبتُ مبتسمًا:
_ أنا لا أكلمك عن عمر، أنا هو عمر، شخصيًا ومباشرة على الهواء إن أحببتَ!
لم يَبْدُ على الأستاذ أنه قد صدقني، بل رمقني بنظرة استخفاف، ثم أعلن أنه سيبدأ بتسميع الدرس، وفتح دفتره مناديًا إحدى البنات في الصف، ولكم كان تسميعها متقنًا! لم تخطئ في شيء، ويا لها من صاعقة مدمرة هوت على رأسها، حينما صرخ الأستاذ بوجهها:
_ ثلاث علامات!
اعترضت المسكينة على هذه العلامة الجائرة، لكنها لم تلق أذنًا صاغية، فعادت إلى مكانها باكية، لينادي الأستاذ زميلة أخرى، كان تسميعها متقنًا مثل رفيقتها، لتنال علامتين فحسب!
ويبدو أن الأستاذ ظن نفسه في مباراة للعد التنازلي، لكنه نسي الرقم واحد، إذ إنه سمَّع لتلميذة ثالثة، ومنحها صفرًا، رغم أنها لم تخطئ على الإطلاق!
إلا أن الزميلة الرابعة قررت اختصار المأساة، وألا تعذب نفسها، فما كاد الأستاذ يذكر اسمها، حتى قالت بكبرياء:
_ لم أدرس الدرس.
فكان رد الأستاذ أنه سيمنحها فرصة أخرى، لترتفع أصوات المعترضات من صديقاتها اللواتي نِلْنَ علامات متدنية، ولكن من دون جدوى، فالأستاذ وضع علاماته هذه، ولن يمحوها ما لم تقم القيامة (وذلك وفق تعبيره الشخصي، والمتكرر).
ونادى الأستاذ زميلتنا الخامسة (مع أنها متغيبة)، لكنه لم يقتنع بأنها متغيبة، لأن دفتره مسجل فيه اسم خمس بنات لا أربع، ويبدو أن دفتر الأستاذ يفهم أكثر من عينيه! فلقد اعتبر أنها (لا تريد التسميع)، ومنحها صفرًا!
وبغتة، صرخ الأستاذ:
_ أشرف، قم سمِّع!
أمر جميل، لولا أنه لا يوجد أشرف واحد في الصف، ولكن الأستاذ أصرَّ على أنه موجود، وظل يناديه ويهدده بالصفر إن لم يستجب للطلب، ونحن في دهشة شديدة نتساءل عن أشرف الوهمي هذا، ولكننا عرفناه بالفعل، فلقد نطق الأستاذ باسمه الثنائي، ولكن الدهشة تضاعفت، فالأخ أشرف هذا كان قد ترك الثانوية كلها من ثلاث سنين مضت!
ونال أشرف؛ الذي لم يكن موجودًا في الثانوية كلها؛ صفرًا على درس الجغرافيا!
وبعد ذلك، طلب الأستاذ من سامح أن يتفضل للتسميع... سامح الذي كان يحفظ حرفيًا، مهما بلغ عدد الدروس، ولا يخطئ في حرف واحد، بل يستطيع أن يذكر أين علامات الوقف في تسميعه، لقوة ذاكرته الفوتوغرافية...
ولكن زميلنا تردد، لقد رأى بعينيه وسمع بأذنيه ما حلَّ بزميلاتنا، رغم التسميع المميز، لذا أراد سامح النجاة بنفسه، فَرَدَّ ببساطة، مدعيًا أنه لم يدرس شيئًا، ليقول الأستاذ من دون مبالاة بذلك:
_ وأحلى صفر، لعيونك!
صرخ سامح بمنتهى الرعب:
_ لاااااا، سأسمِّع، تكرم عيونك!
وانطلق سامح في تسميع الدرس، بسلاسة مدهشة، والأستاذ ينظر إليه مبهورًا، ما جعلنا نعتقد أن الغيبوبة العقلية التي أصابته مع تسميع زميلاتنا قد انتهت، ولكن...
هبَّ الأستاذ كالإعصار، على حين غرة، ليصرخ صرخة رهيبة...
كاد يشيب لها شعر رأس رفيقنا رعبًا!

تابعوا معنا