5 ـ على حافة الهاوية .
اكفهرت سماء أيار , وشقت خيوط البرق اللامعة سحبها المتعانقة , وأسدل الظلام سدوله رغم تجاوز الساعة الواحدة بعد الظهر بقليل , وأعقب البرق صوت الرعد الرهيب , المصاحب لزخات من المطر البارد , وراحت نوافذ القصر العتيق تصدر صريراً مخيفاً مع هبوب الريح القوية في الخارج , وأضحى رواق القصر المظلم إلى ما يشبه مغارة مهجورة , تقطنها الأشباح , لا سيما مع زمجرة الريح الغاضبة ..
دست (ديانا) رأسها أسفل وسادتها في غرفتها, وأغمضت عينيها ذعراً مع هبوط صوت الرعد الرهيب, ثم فتحت جفنيها وتطلعت لشقيقتها في حيرة..
كانت (كريستين) تقف أمام النافذة في صمت وشجاعة , وقطرات المطر تتحطم على النافذة بالخارج , وعيناها شاردتان للغاية , والتفكير العميق يرسم بصمته في وضوح على قسماتها , تساءلت (ديانا) عن طبيعة شقيقتها الغريبة , وقد وقفت في مواجهة ضوء البرق الصاعق , واللامبالاة تغزو ملامحها , لم تكن تعلم أن (وليم) محور تفكيرها ..
لم يعد مسموحاً لها بالتجول في القصر كما في السابق ..
(ويلي) حذر الخدم من السماح لها ببلوغ المرسم , طالما عمه بداخله ..
الأمر الذي أحنقها ..
أحنقها بشدة ..
لكن لا شيء بيدها , ليست سيدة القصر لتكسر أوامره ..
لا سطوة لها وهي في مصاف الضيوف ليس إلا ..
و(وليم) لا أثر له إطلاقاً ..
منذ ذلك اليوم لم ترى له وجهاً ..
وهذا الأمر يزعجها ..
يغيظها ..
ويسلب منها لذة الارتياح ..
ولكنها لن تعدم وسيلة ..
إن لم يكن (وليم) لها , فلن يكون لسواها ..
بذكائها وخبثها ستحقق هذه المعادلة الصعبة ..
حزمت أمرها وبخطوات قوية غادرت الغرفة , فهتفت بها (ديانا) في فزع :
ـ إلى أين ستذهبين ؟
تجاهلتها كلياً وهي تصفق الباب على وجهها , فدفنت (ديانا) نفسها أسفل الغطاء الثقيل , وجاهدت لسد أذنيها عن هدير السماء ..
قطعت (كريستين) الرواق المفضي لغرفة (وليم) , والجمود يملئ ملامحها , وقرعت باب غرفته عدة مرات , وحين لم يبدي استجابة , دفعت الباب في جرأة وقحة , وأرسلت بصرها لداخل الغرفة شبة المظلمة , وعقدت حاجبيها حينما لم تجده , فأغلقت الباب متمتمة :
ـ لا ريب أن المعتوه في مرسمه .
وبسرعة خاطفة هبطت للأسفل , ووقفت قليلاً أمام البيانو القديم , الموضوع إلى يسار السلم , فاتجهت إليه مبتسمة في سخرية , ومررت إصبعها على سطحه اللامع , وتلاشت ابتسامتها وسخريتها دفعة واضحة , حين رأت ثقب خلفته رصاصة أعلى الغطاء , فتوترت أعصابها رغماً عنها , وتذكرت بلمحات خاطفة أيام مريرة , تحمل عنوان الحرب .
نفضت عن نفسها هذا الشعور السلبي , ورفعت الغطاء في حذر , وضغطت احد أصابع البيانو , فأصدر صوت تردد صداه في الردهة الخالية , فتدفق الارتياح لصدرها فاتخذت مجلسها على المقعد الدائري الصغير , وراحت تنقل أناملها بين أصابع البيانو , وعزفت لحناً قديماً من ألحان المقاومة الشعبية , واسترسلت في عزفها , والسماء تزأر غضبى , والرعد يهز الجدران في هدير مفزع .
وفي انسيابية , تسلل صوت البيانو في أرجاء القصر الغارق صمتاً وحزناً , إلى أن وصلت أنغام البيانو لمرسم (وليم) , فتوقف عن ضرب لوحته بالفرشاة , وأصغى في انتباه للعزف , وتداعت في مخيلته صورة زوجته الحنون , حين كانت تعزف هذا اللحن بالذات , أبان الاحتلال البغيض , وضحكات أطفاله الثلاثة , أحباءه الذين رحلوا إلى السماء ..
" (وليم) .. حتى لو فرقنا الموت, فحبنا باق "
" عش حياتك يا حبيبي, وساعد في بناء (لندن) مع أبناء شعبنا الغالي "
" لا تدع الحزن يحتوي قلبك , وفكر في المستقبل "
" أنت حبي الوحيد .. حبي الغالي "
أخذت تلك الكلمات تدور في عقل (وليم) ويتردد صداها في روحه ..
كانت آخر كلمات زوجته وهي تموت بين ذراعيه ..
لقد رحلت , وحل الحزن والعذاب محل الفرح والسعادة ..
برحيلها رحلت الأيام السعيدة واللحظات الحنونة ..
صوت البيانو ما زال مستمراً ..
وقلب (وليم) يدق بشدة ..
بعنف ..
كلا .. لا أريد سماع ما يذكي نيران شوقي لـ(جوليا) .
كفى عزفاً ..
كفى عذاباً ..
أفلتت أصابعه ألوانه الداكنة الجديدة , هدية (ويلي) له ..
وجثم (وليم) أرضاً , واحتضن جسده المرتجف بذراعيه , والدموع تترقرق في عينيه , وسرت قشعريرة خوف في أوصاله , ودب الرعب في كيانه الواهن , والموسيقى تصر على تعذيبه أكثر فأكثر ..
البيانو.. هديته لـزوجته (جوليا) , في عيد ميلادها الثامن والعشرين ..
لم تسعد به البائسة كثيراً ..
وبرحيلها , أقسم ألا يستخدمه ..
حتى (ويلي) تجاهل وجوده وكأنما لا يراه رغم وجوده في مكان بارز..
وصرخت أعماق (وليم) في عذاب :
ـ من يثير في نفسي ذكرى مؤلمة , يجهل أنه يعذبني ويرهقني , البيانو أحد هذه الذكريات ..
صر على أسنانه في قوة ودموع جرحه النازف تنهمر بغزارة , وتلاحقت أنفاسه وصدره يضيق بها بلا رحمة , وارتجافه جسده تزداد , ومازال يطوق صدره بذراعيه ما أقسى حياتك يا (وليم) ..
وما أشده من عذاب ذاك الذي تحيا في نطاقه ..
فجأة .. توقفت الألحان , ففتح (وليم) عينيه في بطء , وحل ذراعيه تدريجياً عن جسده , وبدأت الدماء الطبيعية تعود لوجهه , وهدأت أنفاسه المضطربة .
لم يخطر بباله قط أن (ويلي) الآن , يواجه لحظات صعبة مع (كريستين) , الفاتنة الشرسة .
قبض (ويلي) على معصم (كريستين) في قوة رهيبة , دفعتها للوقف والصراخ
في حدة :
ـ ويحك أيها الحقير , من تحسبني ؟
سطع البرق على وجه (ويلي) الغاضب , ثم قال في صوت هادئ يخفي خلفه عاصفة من الثورة والغيظ :
ـ لا أحسبك سوى نبيلة من أوساط راقية , ولكن أتتصرف النبيلة في ممتلكات الغير كما تهوى ؟.
قاومت إحكام قبضته عبثاً , وهي تجيب في حنق :
ـ كل هذا لأنني سمحت لنفسي بالعزف ؟
أجابها في برود مستفز ومازال محتفظاً بمعصمها :
ـ تعزفين في ليلة عاصفة ؟
وأفلت معصمها مع آخر حروف عبارته , فتحسسته في ألم وتمتمت في شراسة :
ـ أعزف طالما البيانو هنا .
تأملها في إمعان فأجابته بنظرة تحد ومقت , وتجلت الحيرة في عينيه وهو يقول في خفوت :
ـ ماذا تريدين بالضبط ؟
قطبت جبينها في تساؤل , فتنهد في حرارة , وأردف بأعصاب قوية :
ـ أنت هنا لأجل مرض شقيقتك كما ذكرت آنفاً , و(ديانا) تزور طبيبها بمفردها , ولم أرك قط تجلسين معها أو تلقين بالاً بها , وكثيراً ما أراها تتجول وحيدة في حديقة القصر , أو تلهو مع سائس الخيول , في حين تتفرغين أنت لمضايقه عمي (وليم) .
اشتعلت أعماقها ثورة , متصوره أنه أهان كبرياءها المريض , فقذفت بالكلمات في وجهه قائلة في نفور :
ـ أضايقه ؟ ذلك المعتوه ؟ سيكون من حسن حظه أن ألق له بالاً .
قفز حاجبيه في ذهول , وهو يتراجع برأسه , لكن سرعان ما استعاد طبيعته , ومال إليها صارخاً :
ـ عمي ليس معتوهاً .
صاحت في هياج :
ـ بل هو كذلك , اعرضه على أي اختصاصي وستسمع الجواب بنفسك .
بهت لعبارتها الصريحة , وأدرك أنها أصابت كبد الحقيقة في براعة تحسد عليها , واستمر يحدق بها , فأشاحت بوجهها , واستطردت بأنفاس ملتهبة :
ـ وعوضاً عن اتهامي جزافاً بما لم أفعل , خصص جزء من وقتك الثمين وجالسه لبضع ساعات فقط .
وأدارت رأسها وتابعت في احتقار :
ـ وحاول انتشاله من مستنقع الظلام الذي يحيا فيه مع لوحاته الغبية .
ومرقت بجواره متعمدة الارتطام بكتفه , فأخذ يتطلع إليها في دهشة , وعقله يميل إلى تصديق عبارتها ..
بالفعل ..
لم يحاول قط الجلوس مع عمه من قبل ..
حينما أدرك طبيعته الصامتة تركه كما يهوى ..
لم يجاهد صمته ذاك , وعوضاً عن مساعدته فر بعيداً إلى جبال (اسكتلندا) , حيث (ليليان) ..
وهناك , نسي عمه تماماً , حتى أرسل له رسالة تذكره بوجوده كجزء من حياته ..
حتى بعدما صارحه عمه بهموم احتواها قلبه الرقيق , استمر وضعه على حاله ..
متى اهتم بعمه بالضبط ؟
عدا سؤال يتيم يلقيه على مسامع الخدم عن طعامه , هذا إن خطر السؤال بباله ..
عمه بحاجة لقلب كبير .. كبير .
فؤاد عطوف يطوي أحزانه ..
لقد فشلت يا (ويلي) ..
عمك أكثر كرماً منك ..
لم يطلب منك المساعدة قط ..
لم يطالبك بأخذ ما في قلبه من عتمة , بعد مصارحته لك ..
ظل كريماً كما هو ..
حزن لوحدتك وعجز في الوقت ذاته عن انتزاع أحزان قلبه ..
لماذا أخبرك بحزنه يا ترى ؟
أليس لتخرجه من بؤرة التعاسة ؟
من أجل حياة خالية من مشاعر الألم والعذاب ..
من الطبيعي أن تكون أنانياً يا (ويلي) , فلقد أعتدت على الأخذ , ولم تتعود العطاء ..
حياتك الطويلة من عمك لم تعلمك شيئاً , لكن بضع كلمات من (كريستين) الخبيثة علمتك في لحظات قصار , ما عجز عقلك الصغير عن استيعابه في عشر سنوات , مدة إقامتك في القصر..
كيف تدعي إذن حبك الشاذ لعمك ..
ليس حباً , إنه تملك ..
شيئاً تملكه وتجهل طريقة الاحتفاظ به ..
هذه هي صورتك الأصلية ..
اذهب إليه يا (ويلي) فما زال في العمر بقية ..
اركض إليه وقبل قدميه جزاء معروفه اللانهائي ..
حاول .. فعمك يستحق المساعدة .
وبكل مشاعره الجديدة وثب لمرسم عمه ..
6 ـ الخاتمة .
دفع (ويلي) باب المرسم في لطف , وابتسم في حنان لرؤية عمه يجلس على مقعد صغير في زاوية قرب النافذة , صامتاً .. هادئاً , ورأسه ملق على الحائط خلفه , و ملامحه توحي بشرود عميق , والسماء تبرق خلفه .
اقترب منه بخطوات مرتبكة مترددة , فأدار (وليم) رأسه إليه ببطء , وغمغم باسمه في صوت غير مسموع .. فابتسم (ويلي) في حرج , وأدار عينيه في علبة الألوان الجديدة ليحجب انفعاله , ثم رجع ببصره لعمه , وقال في خفوت :
ـ أريد مجالستك قليلاً .
تألقت السعادة في عيني (وليم) واعتدل في هدوء , وهمس في صوت مبحوح :
ـ تجلس معي ؟
وثب (ويلي) إليه وجثم أمامه واضعاً كفيه على فخذي عمه , وقال في حنان :
ـ عمي , لقد جئتك طالباً مساعدتك .
رمقه (وليم) في حيرة وحرك شفتيه دونما صوت , فأومأ (ويلي) برأسه موافقاً وكانمأ أدرك ما يود عمه قوله , فأردف (ويلي) في عطف :
ـ أريدك أن تخرج من عزلتك , وتعيش حياتك بطبيعية بعيداً عن مرسمك والقصر , فالحياة لا تتوقف برحيل أحباءنا .
تراقص الحنين في عيني (وليم) مع عبارة ابن أخيه , وبدا مصغياً إليه في اهتمام , فتشجع (ويلي) على الاستمرار , وتابع بابتسامة حزينة :
ـ أنت تحجز نفسك هنا منذ سنين , لم تقابل أحداً خارج القصر , كل شيء تغير واختلف بعد الحرب , (لندن) تنبض أملاً وإشراقا , المدينة تحيا من جديد , فلماذا لا نفعل نحن الشيء ذاته .
انزلقت دمعة يتيمة من مقلتي (وليم) , وأخذ يفرك كفيه في توتر , مع كل عبارة ينطق بها (ويلي) , ولاحظ (ويلي) ارتباكه وانفعاله , فاحتضن كفيه وقال في دفئ :
ـ ساعدني على التخلص من هذا الحزن الطويل , والصمت اليائس , مازلت شاباً يا عمي , وسيم وأنيق للغاية , المال لا ينقصك , والصحة في جسدك , تنقصك الشجاعة فقط , لتبدأ حياتك من جديد .
عند هذه العبارة أشاح (وليم) بوجهه , وانحدرت دمعة أخرى جرت في أعقابها أخرى , حتى ابتل وجهه واحمرت أرنبة أنفه , وصدره يكاد ينفجر من ضغط أنفاسه المتسارعة , أصاب (ويلي) القلق عليه , ووقع قلبه بين قدميه حينما همس عمه في بطء
ـ برحيل عائلتي , لم تبقى لي حياة .
عقد (ويلي) حاجبيه , واقترن قلقه بخفقات قلبه الذي كاد يثب من مكانه , عندما نهض عمه ووقف مواجهاً للنافذة , والعاصفة تزأر في الخارج , ثم قال في ألم :
ـ لا يطيب لي العيش دون (جوليا) .
وأرخى جفنيه في عذاب , فتعلق (ويلي) بذراعه وهو يقول في إشفاق :
ـ لا أطلب منك نسيانها , لكن الحياة لا تتوقف بموت أحدهم , (جوليا) رحلت لكنك هنا , حياً تنعم بالحياة .
غمغم (وليم) في قنوط ورأسه يتهدل أرضاً :
ـ أنا رجل ميت .
هتف (ويلي) معترضاً :
ـ عمي !
وواجهه مستدركاً في حزم :
ـ طالما تتردد الأنفاس في صدرك , فأنت حي .
وترقرقت الدموع في عينيه بغتة , وتابع في صوت متحشرج من غصة بكاء أليمة , امتلئ حلقه بها :
ـ وأنا بجوارك , وسأضل بجوارك .
وألقى نفسه بين ذراعيه وطوقه في حرارة , وأخذ يجهش بالبكاء ورأسه مدفون في صدره , وهو يغمغم :
ـ أرجوك ساعدني لتتخلص من عزلتك هذه , أرجوك .
أخذ (ويلي) يردد كلمته الأخيرة عدة مرات , و(وليم) يقف حائراً لا يعرف كيف يتصرف , إزاء بكاء (ويلي) , فأشاح بوجهه في ألم , وصمت .
وبجهد جهيد غادر مرسمه بذهن شارد وفؤاد خال من المشاعر, دون أن يسمح له عقله المضطرب بالتفكير في كل ما سمعه , و(ويلي) يحتضن كفه في محبة مخلصة , عاقداً العزم على المضي في طريق شفاء عمه , ولجا الردهة معاً , ولكن صوت (كريستين) الخافت الآتي من زاوية قريبة استوقفهما , ومد (وليم) بصره إليها , وهي تتحدث في الهاتف في صوت خافت , وكأنما تحرص على ألا يسترق أحدهم السمع , مديرة ظهرها لأي قادم من تلك الناحية , والتقى حاجبا (ويلي) وهو يصغ إليها وهي لا تراهما من تلك الزاوية المعتمة , كانت تقول والسخرية تقطر مع كل حرف يغادر شفتيها :
ـ إنها مسألة وقت يا أبي , فالكونت (وليم ستيوارت) مصاب بنوع غريب من الجنون , يدفعه للعزلة دائماً , وبقليل من الصبر سأغزو قلبه وأتزوجه , ومن ثم سأرسله إلى مستشفى الأمراض العقلية , حيث يجب أن يعيش , أما عن ذلك الأبله (ويلي) فسأركله خارج القصر , فلن أسمح لدخيل كهذا بمشاركتي ثروتي الجديدة .
امتقع وجه (وليم) من هول ما يسمع , وصعدت دماء مخيفة لعينيه وأغشت بصره , وترنح رغماً عنه , فأسنده (ويلي) بسرعة , وعاد يتطلع لـ(كريستين) في بغض هائل , وهي تطلق ضحكات ظافرة , وتحت ثقل جسده على (ويلي) , سقط (وليم) أرضاً في ضجيج مزعج , بعد ارتطام رأسه أثناء وقوعه بحافة منضدة رخامية , فأفلتت (كريستين) سماعة الهاتف واستدارت وهي تشهق في هلع وذعر , وجحظت عيناها لرؤيتها (وليم) فاقداً وعيه , و(ويلي) يستنجد بالخدم , والخوف يلتهم أعصابه .
ظلام دامس ..
عتمة سرمدية ..
بصيص من الضوء يبدو ضالاً من بعيد , حيث يجب أن أكون ..
فتح (وليم) عينيه في بطء , ورأى ظلام دامس يحيط به في استماتة , وفي مكان تفوح منها رائحة الدواء , مازال الضباب يكتنف برأسه , والرؤية معدومة كلياً , وسمع في وضوح صوت أحدهم يتمتم بكلمات لم يفقه منها شيئاً , وبضعة أيدي تحاول إسناد رأسه إلى وسادة إضافية ..
كف ماً تجذب جفنه الأيمن للأعلى قليلاً , وانتقلت تلك الأنامل لعينه اليسرى , دون أن يعرف السبب لكل هذا ..
يريد أن يسأل , لكن لسانه ثقيل .. ثقيل ..
ثم غادر الجميع غرفته , وهو لا يفهم شيئاً , ولا يرى شيئاً ..
وبعيداً عن غرفته ..
اتخذ الطبيب مكانه خلف مكتبه , وشبك أصابع كفيه أمامه , وأخذ يرمق (ويلي) المنهار في إشفاق , وهو بالكاد يقف , وفي خفوت ينذر بعاصفة سأله الطبيب :
ـ معذرة يا بني , أنا مضطر لذكر الحقيقة كاملة لك .
هوى (ويلي) بجسده على مقعد قريب , وقال في انفعال :
ـ أرجوك يا سيدي .. لا تخفي شيئاً عني , إنه عمي الحبيب .
قلب الطبيب كفيه قائلا ً في حيرة :
ـ الفحوص الأولية قررت إصابته بنوع مؤقت من العمى , كونه وقع بقوة على جزء حساس من الدماغ , لكنه صامتاً تماماً , لم يبدي أي استجابة لأسئلتي , فهل يعاني عمك من متاعب في السمع ؟
حدق به في ألم , وعجز عن التفوه بحرف واحد ..
لم يعد حاجزه الصمت ..
لقد أصيب بالعمى أيضاً ..
عمه الحبيب .. أعمى .
الرجل الذي لا يجد نفسه إلا في لوحاته ومرسمه ..
أهذا ما كان ينقصه ليضاف إلى رصيد آلامه ..؟
ياللقدر ..
أدرك الطبيب الكهل حزن (ويلي) وشدة مصابه, فقال مشجعاً:
ـ لا داع للقلق يا عزيزي , فمسألة العمى قد تكون مؤقتة , لكني الآن حائراً في صمته , و..
قاطعه (ويلي) في مرارة بدت في أذني الطبيب مؤلمة :
ـ ليس صمتاً مؤقتاً يا سيدي , إنه صمت طويل ..
ووجد نفسه يروي للطبيب تفاصيل مأساة عمه ..
منذ البداية ..
وحين فرغ من حديثه , تنهد الطبيب في حرارة , وغمغم آسفاً :
ـ في هذه الحالة , أنا مضطر إبقاءه هنا لفترة من الزمن .
اتسعت عينا (ويلي) في ارتياع , فأسرع الطبيب يستدرك :
ـ هذا لصالحه يا بني , فعمك مريض بشدة إن صحت روايتك تماماً , إنه مصاب بمرض نفسي , معظم الناس أصيبوا بحالات مماثلة بعد الحرب , البعض منهم شفي ومارس حياته على نحو طبيعي , والبعض منهم عزل نفسه كعمك , وعاش عالماً خيالياً منفصلا ً ـ رغماً عنه ـ عن واقعه .
سأله (ويلي) في انهيار :
ـ والحل ؟
عقد حاجبيه وأجاب في حزم :
ـ يبقى هنا , وسنحاول بذل جهدنا لشفائه , من العمى ومن مرضه النفسي .
نكس (ويلي) رأسه , وترقرقت دموع العجز في مقلتيه , وجثم الضيق على صدره فأحصى أنفاسه , وفقد كل رغبة له في الحياة ..
لقد خسرت القلب الوحيد الذي أحاطك بحبه وعطفه ..
خسرته بأنانيتك واستهتارك ..
وحينما نهض , ناء جسده بسنوات عمره الفتية , وجر قدمه في صعوبة من غرفة الطبيب , الذي شيعه في أسى وقل حيلة , وعندما خرج وجد (كريستين) باكية أمامه , فرمقها في خواء , وهي ترتجف باكية بصدق , وقد فرت دماء الحيوية من وجهها النضر , وتركته شاحباً كالأموات .
أرسل إليها (ويلي) نظرات عميقة تنبض بمزيج مدهش , من العتاب والمقت والكراهية , محملاً إياها ما أصاب عمه الحبيب , امتزجت شفتيها بدموعها وهي تتمتم محترقة الفؤاد :
ـ لم أقصد ..
قاطعها بإشارة واهية من كفه , فأطبقت شفتيها في أسى , وتسارعت نبضات قلبها وهي تشعر بندم حقيقي ..
لم تقصد قط إيذاءه على هذا النحو ..
فعلاً لم تقصد ..
لكن حالة (ويلي) الآن ليست طبيعية, وأي كلمة الآن لن تكون في مكانها الصحيح, ولن تكون في صالحها أيضاً .
وبأنات قلب جريح , مقهور , مرير , قال (ويلي) ودموع ملتهبة تغرق وجنتيه :
ـ لن يجدي الأسف نفعاً , كلمات الرثاء لن تعيد إلي (وليم) الإنسان , الطيب , المحب , لقد حولته الحرب سابقاً إلى حطام , والآن حولته أنت إلى .. شظايا .
انهارت أعماق (كريستين) بحق هذه المرة , ومادت بها الأرض , فترنحت . وبهدوء شديد , بصمت يقارب صمت القبور , تركها (ويلي) ..
لقد خسر والديه من قبل ..
والآن خسر القلب الوحيد الذي أحبه بإخلاص وصدق ..
غادر المستشفى وكأنما الروح تفارق جسده , ترك المستشفى مودعاً خلفه جسداً مسجى , خلا مجازاً من روح رقيقة شفافة , رفرفت إلى الوراء .. باحثة عن حب آخر , فارق هذا العالم بلا رجعة .
النهاية .
أعزائي في المنتدى ..
تشجيعكم حافزي الاول , فلا تبخلوا علي بكريم ردكم ونقدكم
المفضلات