قوله تعالى: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم، ليشكروه عليها، وهو أنه -تعالى وتقدس وتبارك وتمجد -أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا.
قال ابن إسحاق: وازروهم. وقال غيره: قاتلوا معهم. وقيل: كثروا سوادهم. وقيل: كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم -يعني المشركين -يقولون: "والله لئن حملوا علينا لننكشفن" ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك، فتقوى أنفسهم حكاه ابن جرير، وهذا لفظه بحروفه.
وقوله: { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } أي: ثبتوا أنتم المسلمين وقووا أنفسهم على أعدائهم، عن أمري لكم بذلك، سألقي الرعب والمذلة والصغار على من خالف أمري، وكذب رسولي { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي: اضربوا الهام ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وقطعوا الأطراف منهم، وهي أيديهم وأرجلهم.
وقد اختلف المفسرون في معنى: { فَوْقَ الأعْنَاقِ } فقيل: معناه اضربوا الرؤوس. قاله عكرمة.
وقيل: معناه: { فَوْقَ الأعْنَاقِ } أي: على الأعناق، وهي الرقاب. قاله الضحاك، وعطية العوفي.
ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } [محمد: 4].
وقال وكيع، عن المسعودي، عن القاسم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله، إنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق"
واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام.
قلت: وفي مغازي "الأموي" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول:
"نُفَلِّق هاما. . . ".
فيقول أبو بكر: من رجال أعزة عليناوهم كانوا أعق وأظلما
فيبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت، ويستطعم أبا بكر، رضي الله عنه، إنشاد آخره؛ لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر، كما قال تعالى: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } [يس:69].
وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا هم بضرب فوق الأعناق، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به.
وقوله: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال ابن جرير: معناه: واضربوه أيها المؤمنون من عدوكم كل طرف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم. و "البنان": جمع بنانة، كما قال الشاعر أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنْهُ بَنَانَةًوَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرَا
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني بالبنان: الأطراف. وكذا قال الضحاك وابن جريج.
وقال السدي: البنان: الأطراف، ويقال: كل مَفْصِل.
وقال عكرمة، وعطية العوفي والضحاك -في رواية أخرى-: كل مفصل.
وقال الأوزاعي في قوله تعالى: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال: اضرب منه الوجه والعين، وارمه بشهاب من نار، فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك.
وقال العوفي، عن ابن عباس -فذكر قصة بدر إلى أن قال-: فقال أبو جهل: لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا، حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم، ورغبتهم عن اللات والعزى. فأوحى الله إلى الملائكة: { أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } فقتل أبو جهل لعنه الله، في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي مُعَيْط فقتل صبرا، فوفى ذلك سبعين -يعني: قتيلا .
وفي الأخير
و
المفضلات