كلّ ما يحول بيننا هي تلك النافذة .. أخذ الشيخ يتمتم بصوتٍ خافت !!
انغمست في التفكير بعيدا فيما يقصده و جلُّ همّي أيَّ نافذة يقصد ..أخذت أقلّب الاحتمالاتِ في مخيلتي ..
قد تكون نافذة غرفتي الصغيرة التي أرى من خلالها مظاهر الحياة طبيعةً .. و لا أستطيع أن أتدخل فيها .. يغمرني حينها الإحساس بأني أستطيع أن أمسك الأشياء من خلالها ..فأظل أرقبها .. أطفال الجيران يلعبون بالكرة .. بائع الخضرة يمرّ من هنا بعد كل عصرٍ .. أصحاب المحالِّ يفتتحون محلاتهم بعيد الشروق بقليل .. أطفال المدارس يتجهون إليها .. طفل ترافقه أمه .. آخر مع أصدقائه .. و أخير يبدو وحيدا .. مما يجعلك تتساءل حقاً .. ليس كل البشر متشابهون .. بل يكاد الجميع أن يكونوا مختلفين عن بعضهم البعض .. أخذت أتابع هذا المشهد لبضعة أيامٍ متتالية .. أدركت فيها أن أيام الأسبوع متشابهة لدى الغالبية .. هي تكرار لصورة اليوم السابق أو تدريب على تمثيل مسرحية اليوم القادم .. فعلا كم تتشابه حيوات الناس .. و كم يختلفون في أشخاصهم .. حتى و إن تشابهت التصرفات فإن الزمان مختلف تماما .. حقيقةٌ هي .. أن العمر يمضي و عجلة الحياة تدور .. أناس تحيا و آخرون يموتون .. هذه سنّة الحياة التي جُبلت عليها .. لا يستقر لها حال و لا يؤمن لها جانب .. لكن .. لا أظن هذا ما قصده الشيخ بقوله ..
لعلها إذا نافذة الحافلة التي أستقلها للوصول إلى جامعتي صبيحة كلّ يوم .. الغريب في الأمر أني لا أملّ من مشاهدة طرفي الشارع من خلالها رغم تكرار المشهد مراتٍ عديدة .. فمرّةً أتعمد الجلوس على يمينها و أخرى أقصد عكس ذلك الاتجاه .. توارد المشاهد تبعا لسرعة تلك الحافلة أمر مثير للاهتمام .. و كأن تلك الحافلة تحاول خرق قانون الزمن .. تسرع فتمر المشاهد سريعة و يُختصر بعض الوقت .. تبطء فيبدو كلّ شيء و كأنه شريط وسائط ثبتت إحدى لقطاته .. و لا نزال نحن البشر في سباق مع الزمنِ و كأننا في ماراثون يكون المركز الأول فيه دوما للعقارب .. هل يمكن إيقاف الزمن ! سؤال ألقي على مسامعي من قبل طفل يشاهد مسلسلا كرتونيا ! .. فكرت كثيرا قبل أن أجيبه .. و بدون أن أشعر قلت له : نعم يمكن .. أجزم أن إجابتي كانت سببا في سعادته أعواماً كثيرة حتى يكتشف بنفسه حقيقة الأمر .. لكني لم أكذب عليه ! .. فالزمن عامل نسبي لما تشعر به و ما تفعله وقتها .. مرة أخرى لا أظن أن ذلك ما عناه الشيخ ..
لربما هو إذاً يشير إلى تلك النافذةِ الأصغر حجما الأعظمِ أثراً .. تلك التي تثير في القلب حزنا على الفراق .. و شوقا للقاء .. تلك التي تموج بالمشاعر كيف تشاء .. فتتقلب ما بين سماوية الفضاءِ إلى رمادية تحاكي سواد الليل .. و قد تنشق عن حمرةٌ تضاهي لون الدماء المسالة على أراضٍ كثيرة .. نافذة من أغرب النوافذ شكلا و من أعجبها سِتراً .. تُسدِل عليها ستائرها حينما تعصف بكَ الأشجان .. و المؤلم في الأمر وجوب فتحها حال الإقلاع أو الهبوط .. لأسباب السلامة و الأمان كما يزعمون ! .. لم أصدقهم يوما و لن أفعل .. و كأنّي بها تقول لكَ أحرق آخر مشاهدٍ من هذا المكان في باطن ذاكرتك .. فأنت قد لا تعود إليه مرة أخرى .. لطالما كانت نافذة الطائرة على صغرها مثاراً لألوانِ من المشاعر كتلك الألوان التي تزهو بها حاضنتها السماء .. شروق و غروب .. ليل و نهار .. سيل من الأمواه تتزاحم لدى خروجها .. و كأنها اصطاكات مزنٍ أثقلت مشاعراً .. حزن و فرح .. شوق و ألم .. فراق و لقاء .. و تودّ لو أنك تقتطع من روحك قطعة فتهدي كل من تعلقت به نفسك إياها .. يكفي أن تلك النافذة هي صلتك الوحيدة بعالمك القديم .. حيث تعمل كمُسْتقبلٍ لصّيب الدعوات التي أزجيتها و مُنحتها فتغمرك بدفءِ و حبَ يدثرانك .. و لسان حالها فلتذهب بالسلامة و لتعد إلينا بالسلامة كذلك .. حفظك الله و رعاك و بلغك ما تريد .. كم هو جميلٌ إلحاق الألم بالأمل .. و كم هو رائعٌ هو شعورك بأن أحدا ما يدعو لكَ لحظتها .. حتى تبلغ عالمك الجديد الذي تقصد .. لكنها لا تعدو مجرد نافذة .. و قد لا تكون هي ما أراده الشيخ بقوله
..
انتشلني من عمقِ تفكيري صوت ذلك الشيخ يخاطبني.. حتى شعرت بأني قد تملكت زمام نفسي من جديد .. أخذ يقول : بنيّ ، ما بكَ تهذي ؟ فأجبته بأن جملته قد أثارت فيّ تساؤلاتٍ كثيرة انجرفت على إثرها بالتفكير و من ثمَّ سألته عن معنى ما أراد .. أطال إلى عينيّ النظر و من ثم أجاب بصوت هادىء :
إنها نافذةٌ ليست كأي نافذة شاهدتها بعينيك من قبل يا بني .. هي نافذة كلنا حبيس لها كلنا قيد لأطرافها .. حتى أشعة الشمس التي تسطع على نوافذ القصر المزخرفة .. فهي حرّة خارجها و أما داخلها فهي أسيرة لتعرجات جسمها .. لانكسارات صنعها .. لرتوش على سطحها و خدوش ألم الزمان بظهرها .. تلك كلها قيود لضوءٍ كل أمنيته أن يمر خلالها بامان .. و يصل إلى مستقره .. و المريض أيضا حبيس لنافذة غرفته يرقب الحياة خارجها و ييأس مما بداخلها .. ييأس من نفسه و من رحمة اللهِ بهِ .. كذلك الموظف حبيس نافذته أيضا فهو يعتبرها مانعة له قيدُ تعب و إرهاق مستمرين .. و صالة لاستقبال الأوامر و تنفيذها .. حتى الطالب في فصله الدراسي أسير لها فهي حاجزه عن حريته و لعبه و لهوه .. غير أن أسيرها الأكبر و الأقدم .. هو " أنا " حيث كنت أسيرا في نوافذ الأقصى .. أحلم بالحرية من خلالها و أرقب الطيور المحلّقة خارجها .. حتى أدركت أنّي أسير بهِ و هو أسير لنافذة أكبر .. و النافذة أسيرة لجدار ألصقت بهِ .. و الأخير أسير لغرفة نشأ فيها .. و الكل أسير أرض نما عليها .. و هي الأخرى أسيرة لجيشٍ سلبها حريتها ..
دمعت عينا الشيخ فتوقف قليلا .. ثم أردف يقول :
و إلى أن يُدرك هؤلاء الأُسارى بداخل نوافذهم أن ما يفعلونه بداخلها يؤثر على ما يجري خارجها لن يتحرر أحد .. و سنظل كمحكومٍ عليه بالإعدام يقبع في زنزانةٍ انفرادية بها نافذة واحدة تطلّ عليه بالموت من جانب و تطلّ على الحياة من جانبٍ آخر ..
يا ترى .. أي نوافذٍ تأسركم ؟! ..
أمعنوا النظر .. رجاءً .. !!
المفضلات