أما الدليل الاول : قوله - عليه الصلاة و السلام - "عشر من الفطرة " و قوله " خمس من الفطرة " و ذكر منها قص الشارب و اعفاء اللحية , فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن قص الشارب و إعفاء اللحية مندوب , أي من السنة . لكونهما من الفطرة , ولاقترانهما بالخصال المندوبة الاخرى في النص , كالسواك , و الختان , أو حلق العانة .
ذلك ان الفطرة على اقوال عند العلماء :
قول انها الاسلام أو الملة , وقول انها قابلية التوحيد و دين الاسلام . , وقول انها الخلقة او الهيئة التي في الطفل التي يميز بها مصنوعات الله , و يستدل بها على ربه , و قول انها البداءة اي الابتداء , وهذا كله في تفسير قوله تعالى :﴿ فطرة الناس التي فطر الناس عليها ﴾ .
و قول آخر هي السنة , و هو معناها في الحديث عشر من الفطرة .
قال النووي : تفسير الفطرة هنا بالسنة هو الصواب .
وقال الخطابي : ذهب اكثر العلماء الى انها السنة .
وقال الشوكاني : وكذا ذكر جماعة غير الخطابي .
وقال ابو بكر ابن العربي : وذكر بعض علمائنا انها السنة .
وقال البيضاوي : انها السنة القديمة .
وقال ابو اسحق الشيرازي : والمعنى آداب الدين عشر .
وقال ابن الملك : هي السنة القديمة التي اختارها الانبياء وانقضت عليها الشرائع و كأنها أمر جبلي فطروا عليها .
ولعل معنى كونها سنة هنا أقرب الى الصواب لاقترانها بمعظم خصال النص , و هي سنة باتفاق .
وقد أخرج النسائي في سننه " عشرة من السنة " و ذكر خصال الفطرة .
وجاء في تاريخ الطبري : ابتلي ابراهيم عليه السلام بعشرة أشياء هن في الاسلام سنة " و ذكر خصال الفطرة .
وروي ايضا عن ابن عباس رضي الله عنه : في معنى قوله تعالى ﴿واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات ﴾ قال : هي عشرة خصال كانت فرضا في شرعه , و هي سنة في شرعنا . وذكر حديث الفطرة .
و أورد ابن العربي : كذلك أنه روى أن ابراهيم ابتلي بها فرضا و هي لنا سنة
وايضا فان علماء السلف جعلوا لها بابا في كتب الفقه , و عنوانه سنن الفطرة . و السنة هي المندوب . و هي التي يثاب فاعلها و لا يعاقب تاركها .
أما بالنسبة للحديثين الذي يقول فيهما – عليه الصلاة و السلام – " ليس منا " لا يعني الفرض أو أنه ليس من المسلمين . بل معناه ليس على سنتنا و طريقتنا في حف الشارب , و إرخاء اللحى , ولا يعني أبدا أنه ليس من أمة الاسلام او ان ايمانه ناقص عن ايمان غيره ممن أطلقوا لحاهم و حفوا شواربهم , فالفعل و هو قص الشارب او إرخاء اللحى من سنن الفطرة كتقليم الأظفار و حلق العانة و نتف الابط و السواك , كما مضى ذكره في الحديث – فأصله ليس فرضا حتى يكون قوله ليس منا على الجزم والتأكيد على فرضيته , بل هو من السنن المندوبة .
فقد يقول قائل ان قوله عليه السلام – ليس منا – قرينة جازمة على فعل الفعل , وهذا صحيح , ولكن ينظر في الفعل أصلا , هل هو الفرض , أم المندوب و النافلة , فان كان في الفرائض فهو زيادة في التأكيد و الجزم على فرضيته , و إن كان من المندوبات , فهو زيادة في تأكيد سنته و ندبه , و ذلك جمعا بينه وبين الأدلة الدالة على عدم الوجوب . كأحاديث الفطرة لما تقدم .
ومثل ذلك أيضا قوله – عليه السلام – " من لم يوتر فليس منا " فعلى قول القائل يصبح الوتر فرضا , و تاركه إما كافرا أو فاسقا أو عاصيا , وهذا غير صحيح , إذ أن الوتر سنة مندوبة باتفاق علماء السلف , و ذلك لقوله – عليه السلام – " ثلاث هن علي فريضة , وهن لكم سنة : الوتر و السواك و قيام الليل " و في رواية أخرى " ثلاثة علي فرض و لكم تطوعا : الوتر و الضحى و الأضحية " , وقول علي – رضي الله عنه – الوتر ليس بحتم كهيئته المكتوبة و لكنه سنة سنها رسول الله – صلى الله عليه و سلم – وغير ذلك من الادلة التي تدل على ان الوتر أصلا من المندوب , ولا يصل الى الفرض , و غاية ما في الأمر من هذه القرينة " ليس منا " أنها تحمل على تأكيد السنة للوتر و ذلك جمعا بينها و بين الادلة التي تقول بعدم وجوب الوتر .
ومثال ذلك أيضا , بالنسبة للنكاح قال – عليه السلام – " النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني " وهذا النص أيضا يدل على الترغيب في النكاح زيادة , ولا يعني أن النكاح أصبح فرضا وذلك لنفس السبب وهو أن النكاح من الأفعال المندوبة أصلا ., قال الله – عز و جل – ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء﴾ و قوله عليه الصلاة و السلام " تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة " و قوله أيضا " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " و غير ذلك من الأدلة التي تدل على أن النكاح أصلا من المندوب , أما قوله ليس مني أي ليس على سنتي و طريقتي , و هو ترغيب في النكاح زيادة .
فالمسلم أن لم يتزوج فلا شيء عليه , ما دام ليس مترهبنا , والمسلم لا شيء عليه إن لم يقم الليل ما دام غير منكرا . والمسلم لا شيء عليه كذلك إن لم يصل الوتر طالما غير منكر و جاحد له , و إن كان القيام بهذه النوافل يقربنا الى الله عز وجل و يجعل لنا محبة عنده , و يعجل لنا في النصر ان شاء الله .
و عليه فقول الرسول عليه الصلاة و السلام " فليس منا " قرينة على نوع الطلب ولكن ينظر ان كان الطلب في أصله , الفرض أو الندب , و إن كان في النوافل او المندوب , فهو السنة او بالعكس , عل نحو ما ذكرنا – و هو تأكيد لسنته , فإن كان في الفرض , او الحرام فهو كذلك تأكيد على فرضيتها و حرمتها على نحو قوله عليه السلام " ليس منا من دعا الى عصبية , و ليس منا من قاتل على عصبية " فهذا يعني الحرام , لأن الشرع ذم العصبية في أكثر من موضع كقوله تعالى ﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ و قوله عليه السلام " إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تعاظمها بالآباء كلكم لآدم و آدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " وقوله " دعوها فإنها منتنة " و غير ذلك , و قوله عليه السلام " ليس منا من غش و من غش فليس منا " , فهذا كذلك يعني الحرام , و هو تأكيد على حرمته ايضا , فقد قال الرسول عليه السلام " لا غش بين المسلمين " و قوله " لا يسترعي الله عبدا رعية يموت حين يموت و هو غاش لها , إلا حرم الله عليه الجنة " .
ولذلك فقد فهم العلماء من قوله عليه السلام " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " أنه على الندب و الاستحباب .
فهذا أحمد بن حنبل – رحمه الله – حين سئل عن السنة في إحفاء الشارب قال : يحفي كما قال عليه السلام – أحفوا الشوارب .
و في المغني : و يستحب قص الشارب لأنه من الفطرة , و يفحش اذا طال , ولما روى زيد ابن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " .
و قال النووي : يستحب أن يقلم الاظفار و يقص الشارب .
وقال المهذب : ويستحب أن يقلم الاظفار و يغسل البراجم , ويقص الشارب .
وقال الشوكاني : وقص الشارب سنة باتفاق .
وهذا يدل على أنهم قد فهموا من قوله عليه السلام " ليس منا " على تأكيد سنة قص الشارب و ليس الفرض .
أما قوله عليه السلام : " خذوا الشوارب و أرخوا اللحى خالفوا المجوس " و قوله " خالفوا المشركين , و فروا اللحى و احفوا الشوارب " و قوله " اعفوا اللحى و جزوا الشوارب , و غيروا شيبكم و لا تشبهوا باليهود و النصارى " .
فهذه الاحاديث لا تدل على أن مخالفة الكفار في هذا الأمر و ما شاكله من الأمور التي لا تتعلق بعقيدتهم على وجه الالزام .
فمن ذلك أيضا قوله عليه السلام : " أن اليهود و النصارى لا يصبغون فخالفوهم " و الصبغ أي بالحناء و الكتم , ومع ذلك فإن بعض الصحابة لم يصبغوا , فدل على أن الامر ليس للوجوب , و الا لما ذهب بعضهم الى عدم الصبغ .
قال القاضي عياض : اختلف السلف من الصحابة و التابعين في الخضاب و في جنسه فقال بعضهم ترك الخضاب أفضل .
و قال الطبري : ان الامر و النهي في ذلك ليس للوجوب بالاجماع , ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض .
و قال ابن الجوزي : قد اختضب جماعة من الصحابة و التابعين .
وهذا كله يدل على أن جماعة من الصحابة و التابعين لم يختضبوا , مع أن فيه مخالفة لليهود و النصارى , الا انهم لم يفعلوه جميعا , فدل على أن الامر للاستحباب أو الندب .
و كذلك بالنسبة للفقهاء فهم على استحباب الصبغ أو الخضاب .
قال النووي : مذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل و المرأة بصفرة أو حمرة و يحرم خضابه بالسواد .
و في المغني : و يستحب خضاب الشيب بغير السواد .
و في نيل الاوطار : و بهذا يتأكد استحباب الخضاب .
وغير ذلك من الفقهاء , فحينما يتكلمون عن الخضاب , فيقولون و يستحب الاختضاب أو الخضاب و هذا ايضا يدل على أنه ليس من الوجوب عندهم مع أن فيه مخالفة لليهود و للنصارى
و غير ذلك من الفقهاء فحينما يتكلمون عن الخضاب فيقولون و يستحب الاختضاب أو الخضاب و هذا أيضا يدل على أنه ليس للوجوب عندهم مع أن فيه مخالفة لليهود و النصارى .
ومن ذلك أيضا : أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال " خالفوا اليهود فانهم لا يصلون في نعالهم و خفافهم " و هذا أيضا لم يفعله جميع الصحابة , أي الصلاة بالنعال بل فعله مجموعة منهم دون اخرى , و التابعين نحو ذلك . و كذلك الفقهاء أنه يستحب لبس النعال في الصلاة , و لم يقولوا أنه فرض و واجب مع أن الرسول عليه السلام أمر بلبس النعال مخالفة لاهل الكتاب , و مع ذلك فهموا على أنها للاستحباب , و ليست للوجوب .
ومن ذلك أيضا : قوله عليه السلام : " لا تشبهوا باليهود و النصارى " فإن تسليم اليهود الاشارة بالأصابع , و تسليم النصارى الاشارة بالكف .
ومع ذلك لم يقل أحد أن مثل هذه الأمور حرام ,, و إنما قال مكروهة , و لم يقل فرضا , بل قال مندوبة .
ومن هذا كله . يفهم أن أمر رسول الله عليه السلام بمخالفة المشركين في جز الشارب و إرخاء اللحى ليس على الوجوب و انما على الندب ,. فحاله كحال مخالفة الكفار من أهل الكتاب و غيرهم بالنسبة للاختضاب , و لبس النعال في الصلاة و هيئة التسليم و غير ذلك .
فهذا القاضي أبو بكر بن العربي – رحمه الله – قد فهم نحو ذلك , حيث يقول : فأما قص الشارب و إعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم فإنهم يقصون لحاهم و يوفرونهما معا , و ذلك عكس الجمال و النظافة .
فقد يفهم من قول ابن العربي . الاباحة و ليس الندب أو الاستحباب حتى , أنه جعل مخالفتهم للجمال و النظافة و ليس لأن الأمر للوجوب أو الندب .
ومن علماء العصر الذين ذكروا نحو ذلك :
محمد أبو زهرة : حيث يقول : و من الامور ما اختلف فيه بعض العلماء , من حيث كون فعل النبي عليه السلام أو تلبسه به كان من قبيل بيان الشرع , او من قبيل العادات كتربية لحيته عليه السلام بمقدار قبضة اليد , فكثيرون على أنه السنة المتبعة و زكوا ذلك بأن النبي عليه السلام قال " قصوا الشارب و اعفوا اللحى " فقالوا أن هذا دليل على إبقاء اللحية لم يكن عادة , بل كان من قبيل حكم شرعي . و الذين قالوا أنه من قبيل العادة , لا من قبيل البيان الشرعي , قرروا أن النهي الذي لا يفيد اللزوم بالإجماع وهو معلل بمنع التشبه باليهود و الأعاجم , الذين كانوا يطيلون شواربهم و يحلقون لحاهم , وهذا يزكي أنه من قبيل العادة , و هذا ما نختاره .
و يقول محمود شلتوت – رحمه الله - : ونحن لو تمشينا مع التحريم لمجرد المشابهة بالكفار في كل عرف عنهم من العادات و المظاهر الزمنية , لوجب علينا الآن تحريم إعفاء اللحى , لانها من شأن الرهبان في سائر الامم التي تخالف في الدين , و لوجب الحكم بالحرمة على لبس القبعة . و بذلك تعود مسألتها جزعة بعد أن طوى الزمن صفحتها , و أخذت عند الناس مسلك الأعراف العامة التي لا تتصل بتدين ولا فسق , و لا يإيمان و كفر .
وقال يوسف القرضاوي : فان الامر لا يدل على الوجوب جزما . وان علل بمخافة الكفار , و أقرب مثال على ذلك هو الامر بصبغ الشيب مخالفة لليهود و النصارى , فإن بعض الصحابة لم يصبغوا فدل على أن الأمر للإستحباب .
و أما قوله عليه السلام : " إن الله أمرني أن أوفر لحيتي و أحفي شاربي " و في رواية " أمرني بإعفاء لحيتي و قص شاربي " .
فإنه لا يفيد الجزم أو الوجوب كذلك , و لا حتى الندب , بل يفيد مجرد الطلب الى ان تأتي قرينة تدل على مدح الفعل . او ذم تركه حتى يصبح فرضا . أو مندوبا . ففي إصطلاح الفقهاء أنه ليس كل أمر يفيد الوجوب , بل يفيد مجرب الطلب , أي مجرد طلب الفعل , و صرفه الى الوجوب أو الندب يحتاج الى قرينة تصرفه الى ذلك , و إلا فيبقى لمجرد الطلب , فكثير من النصوص جاءت بلفظ الأمر صراحة , أو حقيقة , أو جاءت مجازا , الا أنها لا تفيد الا مجرد الطلب و لا تفيد الوجوب أو الندب , الا بقرينة تدل عليه , فقوله سبحانه : ﴿و إذا حللتم فاصطادوا﴾ و قوله ﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض﴾ و قوله ﴿كلوا مما رزقناكم﴾ و قوله ﴿خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ وغير ذلك , فهذه الآيات وان كانت بصيغة الامر بمعني افعل الا انها لا تفيد الا مجرد الطلب ما لم تكن هناك قرينة تدل على الوجوب أو الندب أو الاباحة , و كقوله عليه السلام : " أمرنا بالتسبيح في أدبار الصلوات " و قوله " أمرنا بإسباغ الوضوء " و قوله " أمرني ربي بتخليل لحيتي " وغير ذلك من النصوص التي تدل على طلب الفعل سواء كانت بصيغة الأمر حقيقة أو مجازا الا انها لا تفيد إلا مجرد الطلب , ولا تفيد الوجوب إلا بقرينة تصرفه لذلك , مع أن اقوال الرسول عليه الصلاة و السلام من التسبيح و الإسباغ و التخليل من الامور المندوبة , مع أنها جاءت بصيغة الامر وهذا ما يدل كذلك على أنه ليس كل أمر يفيد الوجوب .
وكذلك بالنسبة لقوله عليه السلام " أمرني ربي أن أوفر لحيتي " فهو لا يفيد الوجوب بل مجرد الطلب , و صرفه للوجوب يحتاج إلى قرينة تدل عليه , و إلا فيبقى لمجرد الطلب , و بما أن الفعل أصله من سنن الفطرة , أي من المندوبات , فيحمل على أصله , و هو المندوب .
هذا من ناحية , و من ناحية ثانية : فقد يكون الأمر خاصا برسول الله عليه السلام على وجه الإلزام لأن اللحية كانت من سنن الأنبياء , فأمره الله أن يتقيد بها , كما أمره أن يقوم الليل , وكما ألزمه صلاة الضحى , و الوتر , و الأضحية , و غير ذلك . فيكون لنا على وجه غير ملزم , نثاب إن فعلناه و لا نعاقب إن تركناه غير جاحدين , كالنوافل جميعا .
وأما حديث " في ديننا أن نحفي الشوارب و نعفي اللحى " فإن هذا الحديث كذلك لا يدل على الوجوب , إذ أن ديننا فيه الفرض أو الواجب , و فيه المندوب , وفيه الحرام , و المكروه و المباح , ففي أيهما يكون النص , أو الطلب فحتي يكون فرضا أو واجبا , لا بد من قرينة تدل على ذلك , من مدح و ذم , أو ثواب و عقاب و هذا غير موجود في النص , و ما دام الأمر كذلك , فيحمل النص أو الطلب على أصل الفعل , و هو من سنن الفطرة , أي المندوب و لا يصل الى الفرض إلا بقرينة تدل عليه .
أما قول القائل قلتم أن الصحابة لما لم يجمعوا على ما أمرهم به رسول الله - صلى الله عليه و سلم – من مخالفة اليهود و النصارى , بالنسبة للصبغ , ولبس الحذاء في الصلاة , و غير ذلك , كان الأمر مندوبا و ليس واجبا أو فرضا , فهل كون جميع الصحابة – رضي الله عنهم – لم يحلقوا لحاهم أن الامر واجب .؟؟
أقول أن الأمر ليس كذلك , لأن علة الحكم ليست في كون الصحابة فعلوا أو لم يفعلوا , و إنما تأخذ العلة من كون الرسول صلى الله عليه و سلم أمر بمخالفة المشركين , ولكن لم يكن الطلب جازما حتى يكون فرضا أو واجبا , ففهم الصحابة أن الأمر ليس للوجوب , و كما قلنا أن أصل الفعل إن كان مندوبا فهو المندوب و إن كان فرضا فهو الفرض .
و أما كون الصحابة لم يحلقوا لحاهم , فهذا لا يدل على أن الأمر للوجوب أو الفرض , و ذلك من وجهين :
الأول : أن اللحية كانت من عاداتهم التي درجوا عليها في عصرهم و مجتمعهم حتى ما قبل الإسلام , ولم تكن بهم حاجة لحلقها , ومن مثلها أيضا لبس العمامة فقد كانت العمامة من عاداتهم كذلك التي درجوا عليها , ولم يرو أن أحدا منهم كان يمشي في الطرقات مكشوف الرأس , الا أن هذا لم يجعل لبس العمامة فرضا أو واجبا لمجرد كون الصحابة – رضي الله عنهم – لم يخلعوها أو داوموا على لبسها , و كذلك الحال بالنسبة للحية.
الثاني : أن مداومة الصحابة على إطلاق اللحية , و عدم حلقها , لا يجعلها فرضا أو واجبا بل تبقى مندوبة , لأن أصلها من سنن الفطرة , و قد داوم الصحابة رضي الله عنهم على أفعال كثيرة , وهي في الأصل من النوافل , أي من المندوبات و السنن . إلا أن مداومتهم عليها لم يجعلها فرضا , أو لم يحولوها من المندوب إلى الفرض , بل تبقى مندوبة , فقد داوموا على صلاة الوتر و الضحى , و صلاة التراويح و غير ذلك من النوافل المندوبة و لا تصير الى الفروض , فيرد القول من هذا الفصل .
فصل آخر :
قول القائل : أن رسول الله – صلى الله عليه و سلم- قال : "من تشبه بقوم فهو منهم " ولذلك وجب علينا مخالفتهم .
أقول أن هذا الحديث فيه ضعف عند أئمة الحديث إبتداءا .
الأمر الثاني : أن معنى التشبه بالكفار , أن يكون الفعل من أجل فعلهم ,. و بمثل فعلهم فلو قصد إنسان ما من عدم إطلاق لحيته , و إطالة شاربه , تقليدا و اتباعا لما يفعله المشركون من يهود و نصارى و غيرهم فبلا شك سيكون آثما لأن هذا هو التشبه بالكفار , من أجل فعلهم , و بمثل فعلهم .
ولكن إن لم يطلق لحيته , لا لشيء من هذا كله . إلا لأنها عادة تعود عليها الناس في زمن , فلا يغتبر مشتبها بحال .
ولو قلنا : " من تشبه بقوم فهو منهم " وهذا عام لكل قوم , و في كل زمان ومكان و في كل شيء لهم , فاذن الواجب علينا في هذه الايام عدم اطلاق اللحى , لأن الكفار أصبحوا يطلقون لحاهم .
فصل آخر :
قول القائل : ان الله عز وجل يقول : ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾.
فهذا يجعل الامر للوجوب لأن الرسول عليه السلام لم يحلق لحيته واتباعه واجب , لقول الله تعالى : ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ . وقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾.
أقول أن موضوع التأسي و الاتباع لرسول الله عليه الصلاة و السلام لا يجعل الأمر في اللحية للوجوب , صحيح أن اتباع الرسول عليه الصلاة و السلام في جميع أفعاله التي صدرت عنه مما ليس مختصا به , و بما ليس من الأفعال الجبلية , واجبا على كل مسلم لأن الرسول – صلى الله عليه و سلم – لا يتبع إلا ما يوحى إليه .
وهو محل الأسوة و الإتباع , غير أن وجوب الأسوة و الإتباع لا تعني وجوب القيام بأي فعل فعله , بل يعني وجوب الإتباع , حسب الفعل الذي جاء به , فإن جاء به واجبا أو فرضا كان القيام به فرضا , وإن جاء به مندوبا كان القيام به مندوبا , و إن جاء به مباحا كان القيام به مباحا ., فنتبعه – صلى الله عله و سلم – بأفعاله حسب ما جاء بها , إما أن نوجب على أنفسنا أفعالا لم يوجبها علينا , نكون قد خالفناه و لم نتبعه .
وكذلك الحال أن نحرم على أنفسنا أفعالا لم يحرمها الرسول عليه الصلاة و السلام فلا نكون اتبعناه بل نكون قد خالفناه , فمثلا : كان عليه الصلاة و السلام يحب الحلوى و العسل و يحب أكل اللحم و كان يختص بالذراع و كانت تعجبه وكان ينقع له الزبيب و التمر و يتطيب بالمسك , و غير ذلك من الأمور , فالإتباع بهذه الأفعال إنما يكون بالقيام بها حسب ما جاء بها رسول الله عليه الصلاة و السلام , فهذه الأمور جاء بها على وجه الإباحة , فعلت أو لم تفعل لا شيء لك , و لا شيء عليك , ولكن اتباع رسول الله عليه الصلاة و السلام واجب . فاتبعه على أن الأمر الذي جاء به مباحا , و ليس فرضا , فأفعله على مثل فعله , أي بالكيفية التي فعلها الرسول عليه الصلاة و السلام و على وجهه , أي أنه مباح وليس فرضا , ومن أجله أي اتباعا لرسول الله عليه الصلاة و السلام لأنه فعله , هذاهو الاتباع و التأسي و هو غير فعل الفعل .
وكذلك الحال في المندوب , فإن جاء به مندوبا كان الفعل مندوبا , لا إثم على تاركه , كتقبيل الحجر الأسود في الكعبة – فلا يصبح تقبيل الحجر فرضا , بل يبقى مندوبا , فقد قال عمر رضي الله عنه : " أعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع , ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبلك ما قبلتك " . هذا هو الإتباع , بمثل فعل رسول الله عليه الصلاة و السلام وعلى وجه أنه مندوب ومن أجله لأنه فعله . لذلك لا يصبح الفعل فرضا أو واجبا , بل يبقى مندوبا كما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و كذلك الحال في الفروض و الواجبات , فإن جاء بها الرسول عليه الصلاة و السلام فرضا أو واجبا كان القيام بها كذلك , ولا تكون مندوبة أو مباحة . كالصلوات الخمس مثلا , فقد جاء بها فرضا فيكون الإتباع على أنها فرض و القيام بها فرض . وهكذا سائر التأسي و الإتباع لرسول الله – صلى الله عليه و سلم – و لذلك وجب التفريق بين الإتباع و التأسي و بين القيام بالفعل حسب ما جاء به رسول الله عليه الصلاة و السلام .
وكذلك الحال بالنسبة لاتباع أوامره , فليس كل أمر للوجوب , بل على حسب ما جاء به , فإن أمر بالشيء على الوجوب كان الفعل واجبا أو فرضا , وإن أمر به على الندب كان القيام به مندوبا , و إن أمر به على الإباحة كان القيام به على الإباحة و هكذا .
وعليه فيكون التأسي أو الاتباع لرسول الله صلى الله عليه و سلم بشأن اللحية و قص الشارب قولا و فعلا أنها مندوبة لأنه عليه الصلاة و السلام اعتبرها من سنن الفطرة كما تقدم .
فالإتباع واجب – ولكن الفعل مندوب , لأنه من سنن الفطرة , و هذا غير ذاك , أعني أن الفعل – غير الـتأسي و الاتباع .
ولذلك يبقى المباح مباحا , ونتـأسى به على أنه مباح , و كذلك الفرض و المندوب , فإذا جعلنا الفرض مندوبا , و المندوب فرضا , أو ما شاكل ذلك لا نكون متبعين لرسول الله بل نكون مخالفين .
وعليه فالأدلة التي استندوا إليها في هذا الفصل كلها أدلة على الإتباع و التأسي , لا على القيام بالفعل , ولذلك لا تصلح دليلا على إدعائهم , و إلا لأصبح كل فعل قام به الرسول صلى الله عليه و سلم واجبا أو فرضا , مع العلم أنه فعل المباح , و فعل المندوب , و فعل الواجب أو الفرض .
و خلاصة القول في مسألة قص الشارب و إرخاء اللحية , لورودهما مقترنين في النصوص , و بعد مناقشة ما أوردناه من أدلة و آراء فيها على قولين :
الأول : أنها مسألة خلافية بين العلماء و للمرء منا ممن لم تحصل له أهلية الإجتهاد أن يتبنى أو يقلد ما شاء منها , و دون نظر إلى مخالفيه فيها من تفسيق أو تضليل أو غير ذلك , لأنه سيصبح كل واحد من الفريقين متهم بذلك أمام أصحابه و هذا سيجعلنا بالتالي نفسق علماء السلف أو نضللهم تبعا لذلك , فهم أصحاب هذه الآراء إبتداءا , أعاذنا الله من ذلك .
و إليكم بعض آراء العلماء في هذه المسألة مجملة ليتسنى لكل منا تبني أحدها حتى تصبح حكم الله في حقه , لأن حكم الله لا يتعدد في المسألة الواحدة بالنسبة للشخص الواحد بحلال و حرام في آن واحد , والعلماء فيها على ثلاثة آراء , رأي بالفرض ويقابله الحرام , و رأي بالمندوب و يقابله المكروه , و آخر بالمباح .
أما من قال بالندب فاذكر منهم :
أحمد بن حنبل : حين سئل عن السنة بإحفاء الشارب , فقال يحفي كما قال عليه السلام " أحفوا الشوارب " .
و في المغني : و يستحب قص الشارب لأنه من الفطرة , و يفحش إذا طال , و لما روى زيد بن أرقم قال : قال رسول الله عليه الصلاة و السلام : " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " و يستحب إعفاء اللحية لما ذكرنا من الحديث .
و في المهذب : و يستحب أن يقلم الاظفار , و يغسل البراجم و يقص الشارب .
و ذكر القرطبي – رحمه الله - : عن بعض العلماء في قوله – عليه الصلاة و السلام – " خمس من الفطرة " و ذكر منها قص الشارب , و قالوا هو من سنن الإسلام .
و قال الشوكاني – رحمه الله - : و قص الشارب سنة باتفاق .
و قال النووي – رحمه الله - : و يستحب أن يقلم الأظافر و يقص الشارب .
و قال القاضي عياض – رحمه الله - : أنه يكره حلق اللحية , و قصها و تحريقها .
و قال النووي – رحمه الله - : ذكر العلماء عشر خصال مكروهة في اللحية , و ذكر منها " و حلقها " و قال بذلك أيضا الشوكاني – رحمه الله -.
و أيضا فإن كل من قال بأن الفطرة هي السنة تكون عنده اللحية و قص الشارب من السنة تبعا لذلك – كما أسلف – في صدر الموضوع .
ومن علماء العصر الحديث الذين قالوا بندبها كذلك :
يوسف القرضاوي : حيث يقول و بهذا ترى أن في حلق اللحية ثلاثة أقوال قول بالتحريم و هو الذي ذكره إبن تيمية و غيره , و قول بالكراهة , و هو الذي ذكره القاضي عياض , و قول بالإباحة و هو الذي يقوله بعض علماء العصر , و لعل أوسطها , أقربها و أعدلها و هو القول بالكراهة , فإن الأمر لا يدل على الوجوب جزما , و إن علل بمخالفة الكفار و أقرب مثل على ذلك هو الأمر , يصبغ الشيب مخالفة لليهود و النصارى , فإن بعض الصحابة لم يصبغوا فدل على أن الأمر للإستحباب .
وذكر أحمد محمد عساف على نحو ما قاله يوسف القرضاوي نقلا عنه .
أما من قال بإباحتها فأذكر منهم :
القاضي أبو بكر بن العربي – رحمه الله – حيث جعلها للجمال و النظافة فيقول : فأما قص الشارب و إعفاء اللحية , فمخالفة للأعاجم فإنهم يقصون لحاهم و يوفرون شواربهم أو يوفرونها معا , و ذلك عكس الجمال و النظافة .
وذكر القرطبي – رحمه الله – و الأعاجم يقصون لحاهم , و يوفرون شواربهم أو يوفرونها معا وذلك عكس الجمال و النظافة ,
فيفهم من قول ابن العربي و القرطبي – رحمهما الله – أن اللحية و قص الشارب كانت لمجرد الجمال و النظافة لا لشيء غير ذلك .
ومن علماء العصر الحديث من قال نحو ذلك :
محمود شلتوت – رحمه الله – حيث يقول : و نحن لو تمشينا مع التحريم لمجرد المشابهة بالكفار في كل ما عرف عنهم من العادات , و المظاهر الزمنية , لوجب علينا الآن إعفاء اللحى , لأنها من شأن الرهبان في سائر الأمم التي تخالف في الدين , و لوجب الحكم بالحرمة على لبس القبعة , و بذلك تعود مسألتها جزعة بعد أن طوى الزمن صفحتها , و أخذت عند الناس مسلك الأعراف العامة التي لا تتصل بتدين و لا فسق , و لا بإيمان و كفر .
وقال محمد أبو زهرة : ومن الأمور ما اختلف فيه بعض العلماء , من حيث كون فعل النبي صلى الله عليه و سلم أو تلبسه , كان من قبيل بيان الشرع أو من قبيل العادات كتربية لحيته عليه السلام بمقدار قبضة اليد , فكثيرون على أنه من السنة المتبعة , و زكوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال " قصوا الشارب و اعفوا اللحى " فقالوا أن هذا دليل على أن إبقاء اللحية لم يكن عادة , بل كان من قبيل حكم شرعي , و الذين قالوا أنه من قبيل العادة , لا من قبيل البيان الشرعي , قرروا أن النهي الذي لا يفيد اللزوم بالإجماع , و هو معلل بمنع التشبه باليهود و الأعاجم الذين كانوا يطيلون شواربهم و يحلقون لحاهم وهذا يزكي أنه من قبيل العادة , و ذلك ما نختاره .
وأما الذين قالوا بفرضيتها و تحريم حلقها أذكر منهم :
إبن حزم و إبن تيمية – رحمهما الله –
وعلى هذا فالمسألة خلافية و للمرء أن يتبنى و لا حرج – كما بيناه آنفا –
القول الثاني :
أن الذي يترجح عندي قول من قال بندبها و استحبابها , لأنها من سنن الفطرة يثاب فاعلها و لا يعاقب تاركها – كما جاء – في صدر الموضوع .
************************************************** **********
فائدة :
إن الذين يقولون أن الفقهاء الأربعة مالك و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد أجمعوا على فرضية اللحية ,, إن هو إلا وهم و تحريف و كذب , فإنهم لم يجمعوا أو الأصح أنه لم يقل أحد منهم أنها فرض على الإطلاق .
ومن تتبع كتبهم لا تجد ذلك , و خير دليل على ذلك أن تلاميذهم كالنووي و إبن قدامة و ابن الهمام و الشوكاني و القاضي عياض و الزرقاني و غيرهم يقولون تبعا لقول الأئمة الأربعة – لما ورد آنفا - .
ومن يود القول بذلك , أي قال الشافعي أو أحمد أو غيره , فعليه أن يبين موضع الكلام , لئلا يتعرض للإتهام بالإفتراء .
وعلى فرض أنهم قالوا بذلك إلا أن هذا لا يعني إلزام الناس بها ما دام هناك علماء و فقهاء ممن يعتد بهم قالوا بعكس ذلك , و لأنهم أيضا ليسوا مصدر تشريع .
المفضلات