المسدَّس

اتَّسعت عينا عادل عن آخرهما، في مرارة بلا حدود ألجمت لسانه، فلم يستطع النُّطق بحرف واحد، حينما صدر الحكم عليه بالسَّجن لثلاثة أشهر، من دون أن يفعل شيئًا...
سيحطِّمونه تمامًا بذلك...
ستضيع السَّنة الجامعيَّة الأخيرة، ومعها شهادة الليسانس...
وستوضع نقطة سوداء في ملفِّه لثلاث سنوات...
كلُّ ذلك بلا سبب، إلَّا أنَّه اضطرَّ إلى صفع واحد من زملائه؛ ليتخلَّص من هجومه الشَّرس عليه...
ثمَّ اتَّضح أن هذا الزَّميل _ بل هذا العدوَّ _ على صلة وثيقة بأحد كبار المسؤولين...
لذا سيدخل هو السِّجن...
سيدخله، وكأنَّه داخلٌ قبرَه، وهو حيٌّ...
وكأنهم حكموا عليه بالإعدام...
بل ليتهم فعلوا ذلك...
الإعدام أكثر رحمة به من هذا العذاب...
توقَّفت أفكاره وخواطره كلها، وهو يخطو بقدمَيه إلى السِّجن، حيث اللصوص والمجرمون...
ومن عينَيه طفرَتِ الدُّموع...
ومن حلقه، نجحت كلمة واحدة في الإفلات...
أفلتت على شكل صرخة مدويَّة، صادرة من أعماق جرح الوتين:
_ لاااااااااااا
ولكنَّ السِّجن ابتلعه...
بلا رحمة.
*********
_ ما هي النِّسبيَّة؟!
سُئل أينشتين هذا السُّؤال يومًا...
فأجاب في بساطة إنَّ الوقت يمضي بسرعة كبيرة، حينما نكون في عمل يسعدنا، وببطء شديد عندنا نكون في عمل نبغضه...
صحيح أنَّ عادلًا لم يسمع بهذا قطُّ...
إلَّا أنَّه لو سُئل عن صحَّته، لأقرَّ بأنَّها مئة في المئة...
بل ألف في المئة...
فلقد سبق له أن قضى إجازة مدَّتها ستَّة أشهر في باريس...
ولم يشعر بها...
مرَّت كلمح البصر...
كالبرق الخاطف...
والآن، ثلاثة أشهر عاشها ساعة بساعة...
دقيقة بدقيقة...
بل ثانية بثانية...
شعر بها كأنَّها ثلاث سنوات...
أو أكثر...
ولكن، ما أعجب الإنسان!!
حينما رأى عادل السِّجن، شعر بالخوف الهائل لأنَّه سيدخله...
والآن، يشعر بخوف مماثل لأنَّه سيخرج!!
وحزن يفوق نظيره لدى الدُّخول يسيطر على مشاعره!!
لماذا؟!
أصحيح أنَّ الإنسان صديقُ ما يألف؟!
أم لأنَّ عادلًا أدرك أنَّه منبوذٌ في المجتمع؟!
وأنَّ الجميع سيشيرون إليه باحتقار؟!
أم لأنَّ لفظة {خرِّيج سجُّون} ستطارده حتَّى آخر حياته؟!
أم بسبب كلِّ هذا؟!
لا يدري...
المهم أنَّ عادلًا خرج بقلب جريح، وكراهية لا حدَّ لها للبشر تعصف في مشاعره...
بل تنساب في دمائه...
يتنسَّمها مع الهواء...
من أعمق أعماقه، قرَّر الانتقام من عماد الَّذي فعل به هذا...
بينما كان عادل يسير على غير هدى، رأى في واجهة واحد من المحلَّات شيئًا جعله يتوقَّف في انفعال جارف...
إذ عثر على وسيلة مثاليَّة للانتقام...
وكان هذا الشَّيء كناية عن...
مسدَّس.
*********

أطلق عماد ضحكة مجلجلة في قاعة المحاضرات، قبل أن يقول بصوت عالٍ:
_ طبعًا يا ليلى، أخبرت والدي ووافق.
هتفت ليلى في سعادة جارفة:
_ حقًّا؟! ومتى ستتقدَّم إلى أهلي؛ لخطبتي؟
ابتسم الشَّباب في سخرية، وظهر الحسد على وجوه الفتيات، أمَّا عماد فأطلق ضحكات مدويَّة أخرى، ثمَّ أجاب:
_ في الغد يا ليلى، أعلم أنَّ قلبَك يحترق شراهة لأموالي، ولكنِّي لن أحرمَكِ إيَّاها، سأعطيكِ ما يكفيكِ، ولن يكون كثيرًا بالطَّبع، فأنت بائسة فقيرة، لم تتذوَّقي اللحم في حياتكِ، وأقصى ما تطمحين إليه لحم الجرذان!!
ضجَّ الجميع بالضَّحك، واحتقن وجه ليلى، وهي تصرخ:
_ أيُّها الـ...
قاطعها في شراسة:
_ اخرسي، أظننْتِ أنَّني أفكِّر في خطبة تافهة مثلك؟!
صاحت في غضب هادر:
_ أيُّها الحقير اللعين.
صرخ في وجهها:
_ كلمة أخرى، وتلحقين بعادل، أيَّتها البائسة التَّافهة، أتفهمين؟
صمتت مكرهة، والدُّموع تطفر من عينَيها لهذه الإهانات، فيما مال أحد زملاء عادل المقرَّبين إليه قائلًا:
_ مدَّة سجنه انتهت منذ أسبوع، يجب أن يكون قد خرج.
ردَّ عماد في لا مبالاة:
_ ومن يبالي بذلك الحقير؟!
ارتفع صوت يفيض بالمقت والكراهية، يقول:
_ أنت.
سرَت في جسد عماد قشعريرة باردة، حينما دخل عماد مستطردًا:
_ يبدو أنَّ حساباتِ مهرِّجِكَ كانت خاطئة، فلقد خرجْتُ اليومَ فحسب.
صاح الشَّابُّ غاضبًا:
_ من المهرِّج أيُّها الأعمى؟! هل نظرْتَ إلى نفسِكَ في المرآة؟! شعرُكَ يكاد يلامس الأرض أيُّها القذر!
تجاهله عادل تمامًا، وهو يرمق عمادًا في بغض هائل، فسأله الأخير بصوتٍ ارتجفَت حروفه، على الرُّغم عنه:
_ لماذا أتيت؟
رمقَه عادل بنظرةٍ طويلةٍ استفزَّتْه، قبل أن يقول في لهجة شامتة:
_ هبط عليَّ الحظُّ من السَّماء بالفعل، فلم يستوقفْني رجل الأمن على باب الجامعة؛ ليسألني عن بطاقتي أو يفتِّشني، وها هي الفرصة مواتية للانتقام.
صاح عماد في صرامة:
_ هل تحبُّ أن تعود إلى السِّجن؟
غمغم عادل:
_ لا.
ثمَّ استدرك بصوتٍ يفيض بغضًا ومقتًا وكراهيةً:
_ بل إلى المشنقة.
وأخرج المسدَّس بغتة، فشهق الجميع في ذعر، فيما كاد عماد يصاب بانهيار عصبيٍّ، وهو يتمتم بأسنانٍ تصطكُّ هلعًا:
_ لا تفعل، أرجوك، سأدفع لك...
قاطعه غاضبًا:
_ اخرس! سأرسلُكَ الآن إلى العالم الآخر، ولن تتساوى جثَّتُك معَ الجرذان الَّتي كنْتَ تتحدَّث عنها!
على الرُّغم من خوفها ممَّا يحدث، ارتسمَت على شفتَي ليلى ابتسامة شامتة متهكِّمة، أمَّا عادل فصوَّب المسدَّس إلى جبهة عماد، فصرخ الأخير في ارتياع:
_ لاااااااا.
ولكنَّ عادلًا ضغط الزِّناد!
تمنَّت ليلى في (رقَّة) عجيبة، أن ترى أشلاء رأسه تتناثر في كلِّ مكان!
وانطلقت ضحكتها تدوِّي في القاعة...
هوى عماد بلا حراك...
وعلى جبهته، يتدفَّق ذلك السَّائل الَّذي لا حياة من دونه...
الماء!
وفي تلذُّذ، نظر عادل إلى عماد الفاقد الوعي رعبًا، وملامحه تحمل أبشع آيات الفزع، ثمَّ أطلق ضحكةً مدوِّيةً...
وألقى المسدَّس المائيَّ جانبًا.
*********

ملحوظة (بسيطة): بعد هذه الحادثة، عاد عادل إلى السِّجن، ثلاث سنين، بتهمة إهدار ماء السَّماء، وحرمان بلده موارده المائيَّة، ما يتسبَّب في ضرر فادح للمزروعات، ولشركات الطَّاقة الكهربائيَّة!!
ملحوظة (بسيطة) ثانية: عماد وليلى، زوجان سعيدان جدًّا، بل إنَّ ليلى؛ لفرط سعادتها وفخرها بزوجها واعتزازها، أخذت تولول في الحارة، حين داخ زوجها ذات مرَّة!