إليكَ.. أيُّها المخفيُّ بَيْنَ الكَلِماتِ
السلام عليكم و رحمة الله
أول قصة لي أتمنى أن تستمتعوا بالقراءة و لا تحرموني آراءكم ^^
وأمطرَتْ لَيلاً على وجنتَيها..
عَساها تَبْلُغُكَ بِمَحَبَّةٍ, وبُرودٍ... كَعادَتِكَ!
--------------*------------
" لم تكن تعرفُ كيف تتصرَّفُ بمشاعرِها التي تدفعُها نحوهُ بقوةٍ وعنفوانٍ, كانت تريدُهُ أن ينطقَ بأوَّلِ حرفٍ حتّى تُكملَ له الجملةَ بكلِّ عناصرِها. وفجأةً أحسَّتْ بشرارةٍ تنبعثُ من يدِها اليمنى ثمَّ تَسري في جسدِها كلِّه, وقبلَ أن تلتفتَ..."
--------------*------------
أمسكَتْ قلمَ الكُحْلِ لتَعبُرَ به على جَفنَيها لعلَّهُ يُخفي بعض آثارِ ما أجرمَ الدمعُ في عَينَيْها إثرَ الصدمةِ الأولى, وَكيفَ لعينٍ مَفجوعةٍ أنْ تَبْرأ بمسحةٍ من قلمٍ قاتمٍ يُخفي بعضَ الملامحِ, أو لعلَّهُ يُبديها وَ يَمنحُها ذاكَ الشكلَ الانسيابيَّ الفاتنَ!
كانت خِطبتهُ اليومَ, وكانت تعلمُ أنَّ عدمَ ذهابِها سَيُعتبرُ ضعفاً من قِبلِها أمامَ حضرتِهِ, وَتسليماً بوجودِ بقايا الشوقِ مطويةً في بعض زوايا القلبِ. لم تكُنْ تعرفُ حينَ رأتهُ بجانبِ صاحبتِها المقرّبةِ لأوَّلِ مرَّةٍ بأنَّ بينهُما شيئاً. ظنَّتْ بأنَّ الأمرَ مجرّدُ حادثٍ أن ذكرَ اسمَها يستفسرُ عن حالِها وحالِ عائلتِها بعد مصيبتِها في أخيها الأكبرِ, ولقد التقيا هناك في المَشْفى حين وصلَها الخَبرُ بأنَّهُ -رَحمَهُ اللهُ- لم يستطعْ أن يكملَ ما بناهُ من أحلامِ شَبابهِ إذْ تَخَطَّفَهُ الموتُ من بين يَدَيْ أمِّهِ وهو لم يكملْ ربيعَهُ الرابعَ وَالعشرينَ. ورغمَ أنَّهُ أنكرَ الأمرَ لَحظةَ واجهتْهُ ببعضِ الحقيقةِ ممزوجَةً بالمزاحِ الأبيضِ, فقد كانت تتلهّفُ لِتعرفَ أخبارَهُ معها دون أن يدري. كان ذنبُها أنَّها لَمْ تُعِرِ الأمرَ الإهتمامَ الذي يستحقُّ, فكُلُّ تفكيرِها بأنَّها أعَزُّ النساءِ في قلبهِ ولن تسبقها إلى قلبِ رَجلِها أكثرهُنَّ جمالاً. يبدو أنَّها كانت مخطِئةً بِما يكفي لتستحقَّ العواقبَ, كيفَ لا, وقد أمِنَتْ أكثر النساءِ خيانةً على قلبِ رجلٍ, أمِنَتِ الدُنيا بكُلِّ مَفاتِنِها النِسَوِيَّةِ, بكلِّ تقاسيمِها الساحرةِ التي تبرُقُ أو تلمعُ من هُنا وهُناكَ, حَتّى ليَظُنُّ المرءُ أنَّهُ مُحاصَرٌ من كُلِّ جانبٍ بشبحِ إحداهُنَّ!
وبكلِّ ما يَنتابُ الأُنثى من مشاعرِ الغيرةِ لفظتْ كلماتِ التهنئةِ كأنَّما تلفِظُ الجمرَ المُستَعِرَ بداخلِها, حادّةً كالسكّينِ التي غُرسَتْ في كبدِها حين جاءَها الخبرُ تُزَيِّفُ قًبحَهُ ورقةٌ بيضاءٌ مزخرفةٌ بالتفاهةِ, تحملُ اسمَها وتزعُمُ بأنَّهُ مُرحَّبٌ بها لتشهدَ هذا الحدثَ العظيمَ!
كانت الحفلةُ برغمِ كُلِّ الحاضرينَ الذين ملَؤوا القاعةَ ضحكاتٍ وألوانٍ, في نظرِ هذه الضيفةِ الحزينةِ, فارغةً من كُلِّ معنىً ولونٍ, ما عدا معنى الفراقِ الأزليِّ ولونِ الفَجيعةِ الأولى, خاليةً من كُلِّ الأشخاصِ سواهُ, كئيبةً رغم كُلِّ باقاتِ الزهورِ المنتشرةِ على طولِ الممرِّ, وكلَّما خَطَتْ خطوةً فيهِ أحسَّتْ بشعورِ المنفيِّ الغريبِ عن وطنِهِ, أحسَّتْ كأنَّها تقتربُ منْ قدرِها الفاني, كأنَّها بدلَ أنْ تمشيَ كانَتْ تصعدُ في السماءِ, متقطِّعةً أنفاسُها ذابلةً عيونُها برغم ما وضعَتْ عليها من الزينةِ. كانت كُلُّ الوجوهِ متشابهةً, كُلُّها مصبوغةً, كُلُّها مزيفةً, حتّى تلكَ الواقفةُ بجانبِهِ بتباهٍ وغُلُوٍّ, تتعالى ضحكاتُها بينما هو يبتسمُ بهدوءٍ ساحرٍ!
وانصرفَتْ تُلملِمُ ما تبقّى لها من كرامةٍ بعد التقائِها ألدَّ عدوّاتِها وأكثرهنّ خيانةً دون أن تصرعَها في أرضِها!
وبكلِّ ما تبقّى لها من حسرةٍ بعد التقائِها أحبَّ الناسِ إلى قلبِها دون أن تأخذَ منهُ حُضناً واحداً!
نعم... ليستْ كلُّ نهاياتِ الحبِّ سعيدةً, كانتْ تدركُ هذا بملئ حواسِّها وعواطفِها... لم تستطعْ أن تشعرَ بالندمِ لأنَّهُ منحَها هذه الأيّام التي أحاطَها فيها بكلِّ لطافتِهِ وحنانِهِ, وحَواها بكلِّ غضبِها وكلِّ حزنِها وأخرجَها إلى الحياةِ واحدةً أخرى تمزحُ وتضحكُ.
لم تتمكَّن حتّى من إلقاءِ كلمةِ عتابٍ بينَها وبينَ نفسِها, لم تتمكّن أن تُرغمَ نفسَها على الشعورِ بالبغضِ تجاهَهُ, كانت أسوارُ حبِّهِ عاليةً كفايةً حتّى تعجزَ عن كُرهِهِ.
--------------*------------
كانا يوماً يتنزَّهان في أعلى التلَّةِ وجَلسا على صخرةٍ كبيرةٍ يتبادَلانِ أطرافَ الحديثِ, وفجأةً صمَتا كأنَّ كُلَّ واحدٍ منهُما يفكِّرُ بشيءٍ يريدُ قولَهُ للآخرِ دونَ أن يبلغَ تلكَ النقطةَ التي تستديرُ عندَها الأحداثُ لتلتفَّ على بعضِها من جديدٍ.
- أحسُّ بأنَّ لديكِ لغزاً... ماضياً دَفيناً... ما قصَّتكِ؟
قالَ لها وعيناهُ مفتوحتان تنتظرانِ أن تَتحرَّكَ شَفتاها بجوابٍ يُنهي حيرتَهُ.
التفتَتْ إليهِ كأنَّما تبحثُ في ملامحِهِ عن سببِ هذا السؤالِ المفاجئ ثمَّ عادَتْ تلعبُ بطرفِ ثوبِها باستحياءٍ وقالت بصوتٍ يكادُ يكونُ مسموعاً:
- أيُّ ماضٍ تقصدُ؟
- شيءٌ في حياتِكِ الماضيةِ, ذاكَ الذي يجعلُ ملامحَكِ فيها حزنٌ مستَتِرٌ ينتظرُ أن يجدَ شخصاً مناسِباً ليبوحَ لَهُ.
- أنتَ قلتَها, شخصٌ مناسبٌ.
- تستطيعينَ أن تثِقي بي إن أردتِ.
تردَّدَتْ قليلاً قبلَ أن تجاوبَ, فمثلُ هذه المواقفِ قد تقذفُ به كلمةٌ واحدةٌ يميناً وتردُّهُ أخرى يساراً... كانَ عليها انتقاءُ كلماتِها بحذرٍ شديدٍ, رَمقتِ الأفقَ بنظرةٍ سريعةٍ ثمَّ قالتْ:
- ليس الأمرُ أنّي لا أثقُ بكَ ولكن... أخشى البوحَ للبشرِ, فلا أحدَ يستطيعُ أن يقدِّرَ مشاعرَكَ مهما قالَ لكَ أنَّهُ يتفهَّمكَ!
- وهل يمكنُ البوحُ للأشياءِ مثلاً!
- قلمٌ ووَرقةٌ تَفي بالغرضِ في بعض الأحيانِ.
- وفي الأحيانِ الأخرى؟
- حضنٌ دافئٌ من وسادةٍ باردةٍ يكفي !
ثمّ عادَ الصمتُ من جديدٍ, وأصبحَ الجوُّ بارِداً بعض الشيءِ بعدما تدثَّرَتِ السماءُ بحريرِها الأرجوانيِّ. لم تكن تعرفُ كيف تتصرَّفُ بمشاعرِها التي تدفعُها نحوهُ بقوةٍ وعنفوانٍ, كانت تريدُهُ أن ينطقَ بأوَّلِ حرفٍ حتّى تُكملَ له الجملةَ بكلِّ عناصرِها. وفجأةً أحسَّتْ بشرارةٍ تنبعثُ من يدِها اليمنى ثمَّ تَسري في جسدِها كلِّه, وقبلَ أن تلتفتَ سَمعتْ صوتَهُ العذبَ يَدنو من أذنِها ويشلُّ حركاتِها قائلاً: بل ما تحتاجينَ إليه هو قلبٌ طيِّبٌ وهادئٌ, ويعرفُ عنكِ كلَّ شيءٍ...
كانت وَجنَتاها في أشدِّ تورُّدهِما, وكانت تريدُ أن تتكلَّم لولا أن قطعَ صمتَها الخجولَ وقالَ لها: هيّا, لنُعدكِ إلى البيتِ, فالجوُّ أصبحَ بارِداً هنا...
تَلَتْ ذلك ليالٍ وصباحاتٌ كثيرةٌ, وفي كلِّ لقاءٍ بينَهما كانت تشعرُ كأنَّ خيطاً مُدَّ بين قلبَيهِما وعُقِدَ في وسطِهِ ثلاثُ عُقدٍ فلا يستطيعان أن يَنفلِتا منه... لم تكن حياتُها أفضلَ منها في تلك الأيّامِ, كانت الفرحةُ تأكلُ أوقاتَها فلا تذرُ لها فتاتَ حزنٍ أو همٍّ, وكانت كالطفلةِ كلَّما واجهتْها مشكلةٌ لجأتْ إليه, وكان هو أسعدَ ما يكونُ بهذه الطفلةِ التي تملأُ له وقتَهُ بالبراءةِ والجمالِ.
لم تدرِ بأنَّ القدرَ في نفسِ الوقتِ كان يَدورُ دورتَهُ الأخيرةَ والنهائيةَ في اتجاهِها المعاكسِ!
من سيدفعُ ثمنَ أضرارِها الآنَ... هل سيدفعُ الحبُّ ثمنَ الأوراقِ التي سَطرتْ فيها رسائِلها إليه؟ وهل تسكبُ الحبرَ وتهدرُهُ حتّى يمحوَ بظلامِهِ كلَّ تلكَ الكتاباتِ التي تنضحُ سروراً!
هل تشكرُهُ لأنَّهُ منحَها الإهتمامَ الهادئَ الذي كانت بحاجةٍ إليه طولَ حياتِها, ولم تجدْهُ إلّا معه, أم تلومُهُ لأنَّهُ انسحبَ من حياتِها بنفسِ الهدوءِ القاتِلِ ظنّاً منه أنّها لم تعُدْ بحاجةٍ إليه؟ أليس إذا نُزعَ الحجرُ الصغيرُ من السدِّ ينفجرُ بماءِ النهرِ؟
--------------*------------
هكذا غادرتْهُ, دون وداعٍ, لأنَّ لحظاتَ الوداعِ لمثلِها تعتبرُعذاباً فوقَ ما تحتملُ المضغةُ الصغيرةُ الكامنةُ بين ضلوعِها, لأنّها حين تفارقُ ترجفُ بدل أن تنبضَ, وتمورُ بها النيرانُ, ويخالطُ دَمَها طعمُ الحقيقةِ المرَّةِ .
ورغم كلِّ القوةِ التي تمالكتْها لتصلَ إلى هنا إلّا أنّها كانت قد بلغتْ مرحلةِ الذهولِ الصامتِ, كما قبلَ الموتِ. خرجَتْ إلى الرصيفِ, كانت تعضُّ على شَفتيها بأسنانِها كأنَّها تعصرُ الخمرَ منهُما, ثمَّ أمسكَتْ يداها وبراحَتَيها أطبَقَتْ على فمِها لتُخرِسَهُ كيلا يلفظَ أنّاتِ الوجعِ وصرخاتِ الألمِ التي تجتاحُ قلبَها وعقلَها في هذه اللحظةِ, فتحَتْ حقيبتَها بسرعةٍ لتتفقَّد زينتَها قبل أن تُعاودَ الدخولَ إلى تلك الحلَبةِ, وكان خطّانِ من الليلِ يجثوانِ على وجنتَيها بخطىً متثاقلةٍ, كأنَّ الزمنَ رفضَ أن يسيرَ في تلك المنطقةِ المعزولةِ عن العالمِ في وجهِها, فالمعركةُ التي خاضَتها في تلك القاعةِ كانت معركةَ ماضٍ و حاضرٍ, ولا بدَّ عند حروبِ الزمنِ أن يتوقَّفَ الزمنُ نفسُهُ ويتَّخذَ قراراً حاسماً!
وحزمَتْ قلبَها وخواطرَها, ثمَّ انصرفَتْ مع ماضيها! هكذا... غادرتْهُ.
إنتَهَت
--------------*------------
22-9-2012
أفنانـْ
المفضلات