لم تشرق عليها شمس منذ ذلك اليوم ...
غرفتها مقبرة موحشة .. لا هواء فيها ولا ضياء ..!
مضى عام كامل منذ رحيلهم ..!
مرّ عليها بطول العشرين سنة التي عاشتها ..!


...

كانت مارية ممدة على سريرها تقلب ناظريها في الفراغ حولها .. وتتساءل باكتئاب شديد:

هل سأمضي بقية حياتي هكذا ؟
هل كُتب عليّ أن أعيش بائسة تعيسة وحيدة حتى مماتي ..!؟؟
حتى وإن مت فل سيشعر بموتي أحد أو يحزن لفراقي ؟

سالت من عينيها دمعة وقالت : لم يعد هناك من يحبني..!
لم يعد لي شيء في هذه الدنيا ..

أهلي..لماذا لم تأخذوني معكم وتريحوني..
لماذا تركتموني أعيش في هذه الدنيا وحدي .. أقاربكم قد نسوني وأصدقائي تركوني
الكل مشغول بحياته وأسرته ودراسته ..!

حتى طموحي ذهب كما ذهب كل شيء..
أردت أن أكون طبيبة تنقذ البشر وتساعدهم .. هههـ يا للسخرية .. إنها لم تستطع حتى إنقاذ أهلها .. وماتوا أمام عينيها دون حراك منها ..

صرخت ودموع القهر تفيض على وجنتيها :

أبي أمي أختاي .. أما كان من الأفضل أن أموت ..

قاطع تفكيرها صوت طرقات على باب منزلها ..
لم تأبه له .. فهي في كل مرة تذهب وتفتح الباب فلا تجد إلا أكياس طعام أو ثياب أو ماء ..
يختفي جالبهم سريعا كما تختفي الأشباح ..!

إنه الشخص الوحيد الذي يعلم بوجود كائن حي في هذا البيت ويهتم به .. تمنت أن تعرفه أو تراه ..
لكنها انتبهت أن الطارق مازال مستمرا هذه المرة ..!
تعجبت من إصراره .. وقررت أخيرا أن تجيبه ..!

..........

قميص ناصع البياض .. عليه سترة زرقاء .. يعلوهما وجه وسيم لشاب في العشرينيّات..!
تعجبت من رؤيته فقد كانت تنتظر رؤية عجوز أو رجل كبير ..
وما زاد من عجبها أنه لا يحمل في يده أي شيء !

سألته : من أنت؟
فقال: أهو منزل السيد فادي؟
أجابته ببرود: ماذا تريد؟
- إذن أنتِ مارية ؟
- قل من أنت فلا وقت عندي للحديث..؟
- أنا أحد طلاب والدك.
- لقد مات منذ عام ..
- علمت ذلك .. ولهذا جئت.. هلّا سمحتِ لي بالدخول .. وسأشرح كل شيء..
صمتت مارية وتقدمته سامحة له بالدخول..


جلس الفتى وبدأ بالحديث قائلا:
- والدك كان أستاذي في الجامعة .. كان رجلا رائعا..
لم يكن معلمي فقط بل كان كوالدي .. أنا ممتن له بحياتي ..!
- بحياتك؟
- نعم ..
- ماذا فعل لك أبي؟
- كنت وحيدا مثلك رغم وجود أبي وأمي وأخوتي وأصدقائي .. وأيضا مخطوبتي..!

شعرت مارية بشغف للاستماع إليه .. وسألته: كيف؟

- أحببت أهلي جدا .. وكان والدي مثلي الأعلى .. وقبل زواج أختي كانت هي المعين لي والصديق .. لكنها بعد زواجها .. تغيرت كثيرا ..
وحسبتني لفرط حبي لها أريد التفريق بينها وبين زوجها .. ثم كرهتني كرها شديدا لظنها أنني وراء الحادث المروري الذي تعرض له زوجها ..!

لن أطيل في تفصيل هذا فهو ليس مهما .. المهم أن أبي تغيّر أيضا بسببها و وصل به الأمر أن يتبرأ مني !

لم يقف بصفي إلا والدتي .. التي ماتت قبل سنين طويلة .. و ورثتني كافة أملاكها ..
قاطعته مارية بأسى : رحمها الله .. هذا مؤلم حقا ..

ثم أكمل:

وبعد وفاة أمي لم يعد لي من أهلي أحد .. كنت أقضي معظم يومي عند صديق لي..

وقبل عامين .. خطبت فتاة معي في الجامعة .. وأحببتها لما يظهر عليها من أدب و رزانة ..

كانت هي وصديقي كل شيء في حياتي ..

ولا أدري أي كذبة كذبها أو أي خدعة صنعها ذاك الذي اعتبرته صديقي حتى أغراها بتركي .. ثم أتى إلي يدعوني إلى حضور حفلة عقدهما ..!
حين سألتها.. لم تقل إلا أن فتى مشردا مثلي لا يناسبها ..!


صرخت مارية بغضب : خائنون..
كل الأصدقاء خائنون .. هل جئت لتريني مزيدا من قسوة الحياة وبشاعتها..

أشاحت بوجهها عنه وقالت وهي تمشي نحو غرفتها :الكل يهتم بنفسه فقط.. عالم سيء..!


لحقها قالا: انتظري ..أنتِ لم تسمعي إلا البداية فقط ..

في يوم من الأيام .. كنت أجلس وحدي في الجامعة بعد أن غادر الجميع ..
كان هذا هو المكان المفضل لي للراحة ..
كنت أتأخر حتى لا يبقى أحد سواي .. ثم أبكي وأبكي وأبكي..
و في ذلك اليوم .. فوجئت برؤية والدك أمامي بعد وقت طويل من نهاية الدوام ..!
لم أتوقع أن أحدا هنا .. وكذلك هو ..!

سألني باستغراب:
- ماذا تفعل عندك؟
- لا شيء
- أنت تبكي؟
- لا.. أبدا

اقترب مني أكثر وقال:
- مابك يابني؟
- لا شيء .. لا تهتم ..
- بني .. يؤلمني أن أراك هكذا .. أرجوك أخبرني..!
- لا شيء أشعر فقط بأنني يتيم وحيد في هذا العالم الكبير ..!
- يتيم؟ لكن ما أعلمه أن أباك على قيد الحياة ؟

أصرّ عليّ و وجدتني أقص عليه كل شيء بالتفصيل ..
كنت في حاجة لأفرغ ما بداخلي ..

وبعد أن انتهيت قال:


بيئة الأبطال ..!
من هذه الظروف الصعبة .. و وسط هذه الجراح يخرج الأبطال والعظماء ..
إن الظروف القاسية هي التي تصقل القدرات والخبرات ..ما دمت احتملت كل ما مر بك .. فأنا واثق أنك تستطيع الإحتمال أكثر .. والاستمرار ..
أعلم أنه من الصعب عليك أن تسير وحدك .. لا أهل يرشدونك ولا أصدقاء يعينونك .. ولكنك إن ملكت شيئا واحدا .. ستستطيع .. وستصمد .. وتستمر..

سألته بلهفة حينها : ماهو ؟
فقال: الإيمان بالرحمان ..!
إن علمت أن الرب الرحيم يراك ويعلم بأمرك ويدبر لك أمرك.. وأنه معك
دائما .. ألا يشعرك هذا بالاكتفاء؟
إنه أرحم بك من والدتك التي أحببتها حبا جما .. لذا ثق أن هناك خيرا كثيرا ينتظرك .. فقط سِر إلى الأمام وستراه

..

حرر نفسك من مخاوفك وأحزانك وآلامك .. اترك الماضي خلفك وعش حاضرك .. كأنك ولدت من جديد ..!
واعلم أن كل مصيبة تنزل بك هي قوة بعثها الله لتجعل منك رجلا أقوى
وكل صخرة تعترضك فرصة لك للإرتقاء ..


سالت دمعة من عين مارية بعد سماعها هذه الكلمات وقالت بحنين : أبي .. !

شعرت بأن كلماته موجهة إليها .. كأنه يحادثها الآن ويشجعها هي !
شعرت بشيء من النور يتسلل إلى روحها المظلمة .. وارتسمت على وجهها ابتسامة صادقة لم تظهر على وجهها منذ وقت طويل..

علم الفتى لؤي أن وقع الكلمات عليها كوقعها عليه ذلك اليوم ..
فرح لرؤية بسمتها .. ولأنه ردّ لمعلمه شيئا من دينه عليه .. انتبه إلى الصوت الصادر من حجره .. اوه لقد نسي أمرهم تماما .. أمسك هاتفه الذي كان متصلا بأصدقائها وقال : بعد خمس دقائق

- مارية ..
- ماذا؟
- نسيت أن أوصل لك سلاما حمّلني إياه أصدقاؤك
- نعم؟ أصدقاء من ؟
- أتيت من بلدتي التي أعمل فيها لزيارة والدك .. سألت عنه في الجامعة وفاجؤوني بخبر وفاته .. وحين
سألت عن عنوان منزله .. دلني عليه جماعة من الفتيات قالوا أنهن صديقاتك .. و أوصوني بإبلاغك السلام ..
وأيضا .. تحدثت معهم قليلا .. وقالوا أنهم لا يأتون إليك بأنفسهم .. خشية أن تطرديهم بسبب مزاجك السيء الملازم لك منذ تلك الحادثة ..
سألته مارية بدهشة : أحقا ما تقول؟
- نعم .. إنهم يرغبون في رؤيتك أيضا ..!

ابتسمت مارية بسعادة
أخيرا علمت من صاحب أكياس الطعام والملابس .. ومن دفع عنها ايجار المنزل ..! لم تصدق أنهم صديقاتها ! إنها ليست وحيدة كما ظنّت !
- أنا أيضا أرغب في رؤيتهم وشكرهم ..!



وإذ بالباب يُفتح ويدخل صديقاتها واحدة تلو الأخرى .. في دهشة كبيرة من مارية .. التي لم تستوعب ما ترى ..!
التفوا حولها وضموها مابين ضحكات ودمعات ..!


صفحة جديدة وحياة أخرى بدأتها مارية في ذكرى وفاة أهلها !





عش بالإيمان عش بالأمل عش بالكفاح
وقدر قيمة الحياة