ولأنَّنا في زمان معكوس، لم يحمل فيه صاحب المسؤوليَّة أيَّة مسؤوليَّة كانت، فأضاع الأمانة وضاع في مفهومه الاصطلاحي، إذ ظنَّ نفسه عبقريًّا، يندرُ أن يجود الزمان بمثيل له، فإنَّ ما تحدَّثنا به عن تلك الرحلة لم تكن تلك نهاية أحداثه، فقبل قرار عودتنا إلى المدينة بيوم، ذهبنا إلى عرفات، وقد كان الباص يترجرج مصدرًا أصواتًا عجيبة، وتمَّ تنبيه السائق إلى ضرورة الذهاب به إلى الصيانة فورًا، وتعهَّد بذلك، واليوم التالي، بعد استعادتي جواز سفري، وقبل أن نبدأ رحلة الرجوع، سألنا السائق هل تم إصلاح الباص؟ فأجاب بالإيجاب والتوكيد، وانطلق بنا عائدًا، وبعد مدَّة من الوقت، في صحراء قاحلة، أو هذا ما بدا لنا، إذ إنَّنا عن المنطقة غرباء، وليس أمامنا ولا من حولنا سوى الرمال، ترجرج الباص وتوقَّف، ليعترف صاحب المسؤولية، ليعترف أحمق، لو لم نكن في زمان معكوس، لما تم ائتمانه على أرواحنا، بأنَّه لم يُصلح الباص لأنَّه لم يرغب في ذلك! وبقينا وسط الرمال اللاهبة والشمس اللافحة مدَّة قصيرة بفضل الله، إذ لو طالت بنا لألقت بنا في الهلاك المحتَّم، ولا نعلم - إلى الآن - ما كان مصيرنا لو أنَّ تلك السيارة لم تمرَّ بنا، ويتوقَّف صاحباها ليريا ما بنا، ثمَّ يقدِّما لنا كلَّ المعونة، ويأتيا برجل قام بالإصلاح ما أمكنه ذلك...
وفي الرجوع إلى بلدنا، وجدنا أمامنا في موقف زماني معكوس، تردَّدت في ذِكره، ثمَّ قلت لنفسي حتَّى إن كان زمانًا معكوسًا فلا بدَّ أنَّه موقف نادر، أو لعلَّ هذا ما أرجوه! إذ توقَّفنا عن إحدى الحدود، وذهب بعضنا يتمشَّى، إلى أن يحين دور باصنا، وبعض منَّا ذهب إلى دورات المياه لقضاء الحاجة، ويا لها من دورات مياه! عددها قليل إزاء عشرات الرجال الواقفين أمامها! وطبعًا هناك دورات مياه للنساء، مهلًا! لماذا نذكر هذا الأمر ونحن نعلم أنَّه بديهي؟ وقد قلنا (طبعًا)، دلالة على أنَّ هذا الأمر معلوم بالضرورة؟ فما ذلك إلَّا لأنَّ إحدى دورات المياه ظلَّت مغلقةً فترة طويلة جدًّا، وكلُّ دورات المياه الأخرى بخلاف ذلك، حركة الدخول والخروج متواصلة، فماذا عن هذه بالذات؟ اقترح بعض الواقفين ساخرًا أنَّ رجلًا ما قرَّر قضاء حاجته عن عشر سنوات قادمة إلى الأمام مثلًا!
ثمَّ - بعد ما بدا لنا أنَّه عمل خارق بحقٍّ - فُتح الباب، وتعلَّقت الأعين جميعها به، وتحرَّك أوَّل الواقفين في الطابور ليدخل، لكنَّه توقَّف غاضبًا، والغضب سرى في النفوس كلِّها، فمن دورة المياه خرجت فتاة!
وليس دخولها دورة مياه خاصَّة بالرجال سبب الغضب، فربَّما كانت في حالة عصيبة، ولم تجد دورة مياه فارغة في المكان المخصَّص للنساء، لكنَّ الغضب العارم كان لسببين، الأوَّل أنَّها وقفت كالأصنام، جامدةً أمام الباب، في وجوه المنتظرين، كأنَّها تحرس دورة المياه هذه! والسبب الثاني أنَّها، كانت تحمل في يدها شالًا طويلًا بعض الشيء، وقرَّرت - هنا، أمام باب دورة المياه، في وجوه الرجال - أن تتحجَّب! وأخذت تضعه في هدوء شديد، وتلفُّه بكلِّ بطء، كأنَّها في بيتها الخاصِّ، أمام مرآتها، ونحن لا نعلم بذلك!
ولئن سكتوا لها بادئ الأمر، فإنَّها هي لم يعجبها العجب! ظلَّت تلفُّه وتنقض ذلك، وتعيد الأمر وتنقضه وتكرِّر، حتَّى زال العقل وانتهى زمن الحكمة والأدب، أمسك بها الرجال من يديها وأخذوا يجرُّونها في غلظة، ليلقوا بها بعيدًا، ومن أفواههم الشتائم تتدفَّق غزيرة مثل مياه شلال غاضب!
هل أقول إنَّهم في ما فعلوا مخطئون؟ هل أقول إنَّهم في ذلك محقُّون؟ لا أستطيع أن أحدِّد ذلك! لكنِّي أعلم يقينًا أنَّ ما فعلتْه هذه الفتاة لا يمتُّ إلى الدين بِصِلَة، وأنَّها أساءت إلى نفسها إساءة كبيرة إذ تسبَّبت في هذه الإهانة لها، بِغَضِّ النظر هل ردُّة فعلهم هذه طبيعيَّة أو أنَّها خاطئة كلَّ الخطأ!
ولأنَّنا في زمان معكوس، فإنَّ حالتها ليست نادرة! وأعني بذلك مضمون ما فعلت: الإساءة إلى نفسها، وإلى رمز من رموز ديننا، فماذا عنَّا نحن عمومًا، وما هذا الذي نفعله بديننا وأنفسنا؟
تجد رجلًا يمسك ابنه، يمشيان معًا، والابن يأكل في شراهة، ثمَّ يلقي الأوراق وبقايا الطعام، هاتفًا في تهكم: (النظافة من الإيمان)، والأب يقهقه إعجابًا بابنه (الرائع) هذا، وطبعًا (النظافة من الإيمان) كلام انتشر في أيامنا تلك على أنَّه حديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أنَّ الابن يقصد السخرية ممَّا يظنُّه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه لا يربِّيه تربية صحيحة، لكن، ربما لن نلوم الأب! كيف يربِّي ابنه وهو نفسه بلا تربية؟
وهذه المشكلة كانت مزعجة جدًا وما تزال، كنا في سنٍّ صغيرة، ومن يفهم في الدين ومن لا يفهم، كلاهما في الدين يتكلَّم! فهذا أستاذ لغة عربيَّة ينفعل صارخًا في وجوه من لا يجيدون ضبط الكلمات، يكاد يدخلهم جهنَّم! وذلك بسبب الحديث النبوي الشريف (الذي لا أصل له): أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش! ويتابع الأستاذ غاضبًا: ألا تعلمون ما يعني هذا؟ إنه يعني أن قريش أفصح العرب! وأن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أفصح من قريش! وأن...
عبثًا كنت أحاول (إفهامه) أنَّ (بَيْدَ أنَّ) هذه تفيد التعارض والتناقض! بمعنى أنَّ هذا الحديث لو كان صحيحًا، فإنَّه يفيد أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلَّم أفصح العرب (رغم كونه من قريش)! وينفعل الأستاذ ويغضب، ويكاد يدخلنا النار جميعًا! يا عزيزي أنت على حق! هل نعرف نحن من تكون قريش؟ ما شأن قريش حتى لو كانت أفصح العرب بضعف أسلوبك في الشرح؟ هل ينبغي أن يكون كل (تلاميذك) عباقرة في اللغة العربيَّة، فقط لأن قريش كانت أفصح العرب، ومعظمهم لم يسمع بهذا الاسم من قبل، ولا يعرف هل قريش اسم فتاة أو سمكة من أسماك القرش؟
ثم إن نبينا صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، إنَّه قد جاءنا بالقرآن الكريم، بكتاب الله تعالى، لكنَّنا لا يمكن لنا أن نكون مثله، أنت تقولها (أفصح العرب)، وما لم يقله لنا العبقري أنه في أيامهم لم تكن هناك لهجات عامية مثل أيامنا! وأن الطفل لا يسمع سوى اللغة الفصيحة، وبالتالي أبناء قريش سيتكلمون بالفصحى ولن يخطئوا بها، كما نفعل نحن! فعلامَ يلومنا ويكاد يخرجنا من الدين أجمعين!!
وفي تلك الأيام السعيدة، كان بعض هؤلاء الأعزاء يعاتبون التلميذ إذا اشتكى على رفيق له بأنه ارتكب خطأ ما، أو سرق له كتابه أو بعض أغراضه الخاصة، فيصرخ الأساتذة في وجه صاحب الحق، ليعلِّموه (الدين) قائلين في انفعال شديد: ألا تعلم أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يمشي مرَّة، وسمع ضحكًا خليعًا مثل ضحكات المجانين ينبعث من بيت، فوقف قرب (الباب) يستمع، وأدرك أن الرجال بالداخل يسكرون، فوثب عليهم من (النافذة) صارخًا في وجوههم، فقالوا له مهلًا نحن ارتكبنا خطأ واحدًا، وأنت ارتكبت ثلاثة أخطاء، أنت تجسست علينا، والله يقول: {ولا تجسسوا}، وأنت دخلت البيت بلا إذن، والله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}، وأنت دخلت البيت من النافذة، والله يقول: {وأتوا البيوت من أبوابها} فندم عمر بن الخطاب واعتذر وتركهم ولم يحاسبهم، فتابوا بعدها)!
وكنا نحاول جاهدين وعاجزين أن نتخيل كيف لأمير أن يثب من النافذة مهما بلغ انفعاله! ثمَّ إنَّه كان يقف قرب الباب، فلماذا يثب من النافذة إذًا؟ لو أن الأستاذ ادَّعى أنَّ عمر بن الخطَّاب ركل الباب في عنف ليقتحم البيت، لربَّما بدا ذلك هيِّنًا نسبيًا وأقنعنا وقتها بأنَّ موعظته الدينيَّة هذه تنطلق من قصَّة حقيقيَّة، لكن في كلِّ الأحوال، ما شأن هذه القصَّة التي يحكيها الأستاذ في انفعال شديد، حتَّى يكاد يبكي، بوجود لصٍّ في الصفِّ يسرق أغراض زميله؟ لن نفهم هذا، إلا إذا فهمنا لماذا بعد هذه (الموعظة المؤثرة) يقوم الأستاذ بضرب الاثنين معًا بالعصا الغليظة! ويسوغ لنفسه ذلك! إنه يضرب الأوَّل لأنَّه لص وضيع سافل تافه حقير! ويضرب الثاني لأنَّه (يفسد) على رفيقه، والله تعالى لا يحب الذين يشتكون رفاقهم بدلًا من أن يتستروا على أخطائهم! كيف يستعيد هذا المسكين ما يمتلك لو أنه ظل ساكتًا ولم يخبرك؟ ثم لماذا يجنُّ جُنونك وتنسى حكاية الوثوب من النافذة، والسكارى الذين يحفظون الآيات ويجيدون الفقه، حين يخطئ تلميذ في الصف بإصدار صوت ما، وتهدد بضرب كل التلاميذ إن لم يخبروك من يكون هذا الأحمق وفق تعبيرك؟؟
والمصيبة كل المصيبة أن يسألك أحد هؤلاء الأساتذة لماذا لم تستوعب (شرحه العظيم)؟ فلا تستطيع أن تخبره أنه لم يشرح شيئًا أصلًا، لأنك لن تضمن أنك سترجع إلى بيتك على قيد الحياة! فتكتفي بالقول: لا... لا أعرف؟ وإذ به يصيح منفعلًا يذكرك بآية في القرآن، اخترعها هو طبعًا: (وجعلنا لكل شيء سببًا)، وحاول أن تفهمه أن هذا كلام عادي، ينفعل حتى يكاد يسقط بالسكتة القلبية، لأنك من المستهترين بكتاب الله تعالى (لا سمح الله طبعًا)! وهكذا يضيع كل شيء، الشرح الذي يجب أن تسمعه بهدوء لتفهمه، وعلاماتك، واحترام الأستاذ لك!
والمسألة لا تتوقف عند الدين فحسب، وطبعًا لم نذكر كل الأمثلة، لأننا نحتاج إلى مجلد، بل لننظر قليلًا في التربية الأخلاقية الصحيحة، هذا أستاذ قرَّر أن يعطينا درسًا تربويًا (عميقًا) في هذه الحياة، ومفاد الدرس أن: إيَّاكم ثم إيَّاكم ثم إيَّاكم أن أسمع أنَّ أحدًا فيكم يدخِّن، وذلك لأنَّكم لا تعلمون أن التدخين ضار بالجسد، لا تعلمون أن التدخين يسبب عشرات الأمراض، لا تعلمون... لا تعلمون أن التدخين سم، سم أسوأ من سم الفئران والجرذان!
وينفعل الأستاذ حتى تكاد تنفجر عروقه أمامنا: ولكن إذا رأيتُ، أو سمعتُ أن أحدًا فيكم يدخن، فسأضربه، سأكسر يديه، سأكسر رجليه، سوف لن أترك فيه جزءًا يتحرك ليستطيع التدخين بعدها!
والحقيقة أن هذا الدرس جيد، و(تربوي) فعلًا، رغم حماسة الأستاذ المبالغ بها، والتي تكاد تدفع به إلى حد قتل الطالب الذي يدخن، ويتناول هذا السم الذي يفوق سم الفئران والجرذان، لولا مسألة بسيطة، ألا وهي أنَّ الأستاذ كان (يتحفنا) بهذه الحِكَم والمواعظ، وهو... ينفث دخان سيجارته، بمنتهى الاستمتاع بها!
ختامًا، أسوأ ما في زماننا المعكوس هذا أننا تخلينا عن كل ما هو صحيح في ديننا، إن سمعنا حديثًا نبويًا صحيحًا لا يناسبنا تأففنا واعترضنا، وفي المقابل ننشر آلاف الأحاديث الغبية التي لا أساس لها، بل ونكاد نقاتل من يعترض علينا، بل ونؤلف الأخبار التي تدفع بالغرب إلى السخرية منا ومن ديننا، ونحن نظن أننا ننصر ديننا! مثال خلال توحش فيروس الكورونا، فوجئنا بخبر ينتشر انتشار النار في الهشيم (عاجل: القناة الثالثة الصينية تعلن دخول عشرين مليون صيني الإسلام بعد أن ثبت أن كورونا لا تصيب المسلمين)! ألم تحرك ذهنك قليلًا قبل نشر التخريف؟ أإلى هذا الحد بلغ بنا الزمان هذا فانعكس في أذهاننا، بل انعكست أذهاننا بالكامل في هذا الزمان العجيب؟ كيف (ثبت) أمر كهذا! ولماذا الكورونا تحديدًا، والمسلمون مثل سواهم أصيبوا بالطاعون وبالسرطان وبكل الأمراض الأخرى! بل إن الغريب جدًا أن نجد منشورًا يتهم الغرب بإخفاء حقيقة اسم الفيروس، وأن اسمه الحقيقي هو (نوكور – فيروس)، لأن الله تعالى يقول في القرآن: {فإذا نقر في الناقور} وبداية السورة الكريمة فيها أمر بالطهارة!
مرة أخرى نقول لو أردنا أن نتوسع لما انتهينا، وما كَفَتِ المجلدات، لكننا نختم بكلام ربَّما يكون خير ما تُختَم به هذه الأخبار: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون!!
عمر قزيحه
18-3-2022