حكاية من خيال... مقالة اجتماعية (د. عمر قزيحه)

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 8 من 8

مشاهدة المواضيع

  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,307
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي حكاية من خيال... مقالة اجتماعية (د. عمر قزيحه)

    حكاية من خيال

    الكاتب: د. عمر قزيحه

    **********
    من الوارد جدًّا في مسيرتك في هذه الحياة، أن تواجهك بعض المواقف التي تبدو أشبه بالخيال، نظرًا إلى طرافتها، أو غرابة أحداثها، وربما بعض هذه الأحداث لن تشعر بما فيه من طريف الابتسامة، أو حتى الغيظ، إلا إذا عِشْتَ أحداثه بتفاصيلها، ووقت وقوعها بالضبط.
    فمن ذلك، يومًا ما، دُعينا جميعًا، دعوة عامة، إلى حضور ندوة تكريميَّة، لأطفال يقتربون من سنِّ الشباب، قد أتمُّوا حفظ جزء عمَّ، حفظًا تامًّا، في احتفال هو كناية عن تلاوة من القرآن الكريم، ثمَّ إلقاء كلمات متعدِّدة من بعض من عملوا على تحفيظ هؤلاء الأطفال.
    إلَّا إنَّ الواقع كان مختلفًا إلى حدٍّ ما، إذ استلم إمام الجامع آنذاك (رحمه الله وغفر له) زمام المبادرة بالكلام، وألقى كلمة مشجِّعة جدًّا بحقِّ هؤلاء الأطفال، ووصفهم بأنَّهم الأبطال، قدوة الأجيال، ومبعث الآمال، وقال إنَّه لن يتلو من كتاب الله تعالى كما نرتقب، وهو الإمام، لأنَّ الأحقَّ منه بذلك ولد من هؤلاء، حفظ فأتقن الحفظ، وقرأ فأجاد التلاوة إذ يسمِّع ما حفظه، ولم يخطئ خطأ واحدًا ولا مرَّة، طوال مشاركته في دورة التحفيظ هذه.
    ويبدو أنَّ المبالغة في المديح أشعلت حماسة الطفل تمامًا، كيف لا، وهو الوحيد من بين عشرات الأطفال، لم يخطئ في تلاوة سورة النبأ وسورة النَّازعات، وكلُّ من حوله ارتكب عشرات الأخطاء في تلاوته، وأُرهق تمامًا حتَّى حفظ هذه السُّور المباركات؟
    وانفعل الولد واحمرَّ وجهه، وبات متحمسًا ليبدأ التلاوة، وإمام الجامع يتابع في ثقة: والآن نترككم مع تلاوة من آي الذِّكر الحكيم، يتلوها علينا الطفل البطل "..."، ليتلو علينا سورة الضحى! وهنا شهق الطفل في غضب ربَّما، أو دهشة عارمة، أو كليهما معًا، لقد تحمَّس لِيُرِيَنا مواهبه الفذَّة، فإذ بالإمام يقول إنَّه سيتلو سورة الضحى التي حفظها كلُّ الأطفال بدون أيِّ خطأ منهم في ذلك؟ لا! لا! ثمَّ لا!
    بدا بعض التفكير في ملامح الولد، ثمَّ حسم أمره، فبدأ يتلو بصوت رخيم مبتدئًا كما ينبغي: {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والضحى، والليل...}، وأظنُّ هذا يكفي! فما بعدها فجَّر الضحكات من الأفواه، بدلًا من الخشوع المرتقب، إذ إنَّ هذا فقط ما قرأه الولد من كتاب الله تعالى، وما بعد ذلك دمج عناصر الطبيعة معًا: (الشمس) (النهار) (المرعى) (الغثاء الأحوى) (القمر) (النجم) (النجوم)، في مزيج لا يجرؤ على فعله أبو لهب شخصيًّا لو أنه موجود في عصرنا هذا، ولم تفلح محاولات الإمام ولا غيره في إسكات هذا الولد!
    والمستفزُّ لهم فعلًا، أنَّ الولد بعد هذا التخريف، سألهم في لهفة: أين جائزتي؟ لينظروا إليه في غضب ما بعده غضب، والإمام يلومه: أهذا هو ثناؤنا فيك؟ لقد خيَّبْتَ الآمال يا هذا! وإذ بالولد يهتف منفعلًا: أنا مستعد لأسمِّع لكم الآن جزء عمَّ كاملًا وبدون أيِّ خطأ، لكنَّك طلبْتَ منِّي أن أقرأ سورة الضحى (فقط)، وأردت أن أريهم كم أنا (شطُّور) أحفظ كلَّ السُّور في جزء عمَّ، بل وسورًا من أجزاء أخرى! وهنا كنَّا قد انصرفنا، إذ لم نعد نتحمَّل أصوات الضحك المدوِّية الصادرة من الجمهور الكبير، (ومنَّا كذلك قبلهم)، فلم نعلم هل نال هذا الولد جائزته أو تمَّ فرك أذنيه!!
    وفي موقف آخر، أو هل نقول مواقف أخرى؟ إذ إنَّ هذا الأمر تكرَّر كثيرًا في خطب الجمعة، من الإمام (رحمه الله)، كان ينفعل في منبره انفعالًا شديدًا، وهو يقول إنَّ هناك أناسًا يدخلون إلى الجامع في فوضى، إذ يجلس كلٌّ منهم حيث أراد، ويتكلَّمون قبل أن يصعد هو المنبر، لكنَّ الأشدَّ فداحةً من ذلك، حين يقترب من إنهاء خطبته، بعض الناس يقفون وبعضهم لا، بل وحين تبدأ إقامة الصلاة بعض الناس يقفون وبعضهم لا، وهؤلاء الذين هم (لا) هم المحقُّون في ذلك، والإمام يشرح لنا ذلك متحمِّسًا: ولو أنَّكم تفهمون لما وقف أحد، إلَّا حين يقول المؤذِّن في الإقامة: حيَّ على الصَّلاة، لتقفوا معًا صفًّا واحدًا، وهذا ما تفعله الأقليَّة فيكم، لكن ماذا أفعل سوى أن أنصح لكم وأكرِّر النصيحة؟ لكن هل تظنُّون أنَّ هذا ينفع فيكم؟ لا! لأنَّني دائمًا أنصحكم وأنتم لا تفهمون، ولن تفهموا، لأنَّه {إنَّ شرَّ الدَّوابِّ عند الله الصُّمُّ البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولَّوا وهم معرضون}!
    والحقيقة أنَّني لم أستوعب الحكمة من هذا الأسلوب الدَّعويِّ الفذِّ! بل إنَّني أقدِّر صراخ بعض هؤلاء أحيانًا، بعد الصلاة، في وجه الإمام: بما أنَّك ترانا دوابًّا من شرِّ خلق الله تعالى لا ينفع معنا نصح ولا كلام، فلماذا تعذِّب نفسك في كلِّ مرَّة بهذا الكلام؟ وهو يتمتم في حسرة: لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم، لكن يا إمامنا العزيز، من الأحقُّ بالتَّحسُّر؟ أنت أو من تصفهم بأنَّهم شرُّ الدَّوابِّ عند الله؟؟
    ونبقى ضمن خطب الجمعة، ففي إحداها أخبرنا الإمام أنَّنا من الجمعة القادمة سنسمع السِّيرة النَّبويَّة (الصَّحيحة)، بأجمل الأساليب، لنعلم منها ما لم نعلمه في حياتنا كلِّها، في خطب موجزة مبسَّطة، قصيرة في وقتها، عظيمة في معانيها، وملأنا هذا حماسة ولهفة، ولعلَّنا أوَّل مرَّة في حياتنا نتحمَّس لخطب الجمعة (لا بأس بهذا الاعتراف، الوقت كان صيفًا وقتها، والخطب طويلة كثيرًا، والشمس تصبُّ نيرانًا علينا)، وجاءت الجمعة بعد انتظار، وذهبنا متحمِّسين إلى المسجد، وبالفعل بدأت الخطبة بداية حماسيَّة مشوِّقة، من بعد الافتتاحيَّة المعتادة:
    (يا أحبَّة، كي نفهم السِّيرة النَّبويَّة، يجب أن نعلم أوَّلًا من هو نبيُّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، إنَّه محمَّد)...
    ويا ويلنا ممَّا بعد ذلك!! إذ استفاض الإمام: (ابن عبد الله بن... بن... بن... بن... بن...)، لِيَعُدَّ أكثر من ثلاثين اسمًا، ومعظمها مكرَّر، ما أكَّد لنا أنه يفشل في قلب صفحة الأوراق التي يقرأ منها، ليعيد قراءتها أكثر من مرَّة، وبعض كبار السِّنِّ يتمتمون في استنكار: (إن شاء الله يقول: ابن آدم، ويخلِّصنا)! وبعد مدَّة توقَّف الإمام أخيرًا، ليقول: ومن الخطبة المقبلة نبدأ في السِّيرة، إذ يجب أن لا نطيل الخطبة، فليس ذلك من السُّنَّة في شيء، ولكن مهلًا، مهلًا، نسينا أن نخبركم أنَّ أمَّه آمنة بنت وهب بن... بن... بن... بن...)!!
    وعادَتِ المسبحة لِتَكُرَّ في عشرات الأسماء التي لا ندري متَّى علم بها، ولا من أين جاء بها، وكما سبق، معظمها مكرَّر، والنَّاس تتلوَّى من شظى لهيب الشمس، وأصوات التَّأفُّف ترتفع وتعلو، والإمام يتابع في حماسة لا يبالي بأحد! ثمَّ قرَّر أن يرحمنا أخيرًا، فقال: لا بأس، الخطبة هذه ضروريَّة جدًّا كي (تفهموا) السِّيرة النَّبويَّة بشكل صحيح، وإن كانت جافَّة (قليلًا)، وهنا انطلقت الصرخات المستنكرة: (نعم؟ نعم؟ قليلًا؟؟ آه؟ قليلًا قال؟ اسمعوا اسمعوا)! وهم ارتفعت صرخاتهم ونحن ارتفعت ضحكاتنا، وبالكاد كنَّا نستطيع كتمانها، وحتَّى في الصلاة كانت أجسادنا تهتزُّ في محاولات كبت الضحك، ونظنُّ أنَّ صلاتنا لم تكن صحيحة، لذا أعدناها بعد ذلك في البيت أربع ركعات ظهرًا، ولا ندري من الملوم، الإمام لما فعل، أو كبار السِّنِّ في هذا الاعتراض الغريب، أو نحن لأنَّنا لم نكن في مستوى التحدِّي لكبت الضحك؟!
    ولئن كان هذا من ذكريات الطفولة، أو بداية مرحلة الشباب، فإن ذكرى سنواتٍ ستٍّ قد مضَتْ، ما تزال في الذِّهن ماثلة، لقسوتها ومرارتها، آنذاك كانت أمِّي (رحمها الله) من المستشفى إلى البيت، ومنها إلى المستشفى، وهكذا، ترتاح وتنتكس صحيًّا، وكانت البداية في وقوعها وكسر رجلها كسرًا شديدًا، لكن في ذلك اليوم لم تكن في المستشفى بسبب ذلك، بل لوضع صحيٍّ آخر استدعى بقاءها عدَّة أيَّام، وكان تحسُّنها بعد ذلك، ويوم خروجها يوم الجمعة، وحان وقت صلاة الجمعة، انصرفنا مع الوالد لأدائها، وأنا أحبِّذ البقاء، إذ إنَّ الطبيب سيأتي في أيَّة لحظة ليوقِّع الانصراف لأمِّي، وبعدها لن تستطيع البقاء في سريرها لحظة واحدة، وآلامها السابقة تمنعها الجلوس فترة طويلة، لكننا ذهبنا لأداء الصلاة، وفي ذهننا أنَّها لن تستغرق وقتًا طويلًا، ولكن!!
    بدأت الخطبة، وانتهى الخطيب في سبع دقائق ممَّا يقوله، وجلس لاستراحة بسيطة، ووقف بعد ذلك، يرغي ويزبد في مواضيع لا أحد يفهم ما هي، ولا ما هو التجانس بينها، مرَّ ما يقارب العشر دقائق، وهو يتابع ملوِّحًا بذراعيه منفعلًا، ثمَّ هدأ قليلًا، فقال: (وباختصار شديد نقول)، وليته ما قالها، إذ انطلق بعدها يصبُّ عشرات المواضيع في آذاننا، كأنَّه ظنَّ أنَّنا كفَّار قريش والقبائل وقد بُعثِوا من جديد، فقرَّر تعليمنا السِّيرة والفقه والتَّفسير في جلسة واحدة، وهاتفي أمامي يرنُّ، طبعًا هو على الوضع الصامت في المسجد، لكنِّي أرى الشاشة في وضوح، اسم أختي يتَّصل ويتَّصل، بات قلبي مع أمِّي، أتخيِّل آلامها، ولا أعلم متى سيسكت هذا الإمام، ولا أفهم أن تكون الخطبة الأولى سبع دقائق، والخطبة الثانية بدايةً عشر دقائق، ثمَّ تستمرُّ بعد (الاختصار الشديد) ما يقارب أربعين دقيقة، حتَّى صرت أدعو بيني وبين نفسي أن ليته يسكت وينزل ويخلِّصنا!
    وبالفعل حين عدنا إلى الوالدة وجدناها جالسةً في ممرِّ المستشفى على مقعد، تمدُّ رجلها أمامها وتثنيها وتتألَّم وتتأوَّه، أسرعنا نطلب كرسيًّا متحرِّكًا لننقلها خارج المستشفى، وإلى السَّيَّارة، ثمَّ البيت، وهي في حالة يرثى لها من الألم، وأنا لا أدري في أيَّة خانة أصنِّف هكذا إمام؟ ثمَّ من قال إنَّ المنبر ملك له حين يصعد إليه، ليتكلَّم بالمفهوم وبالتخبيص، وبكلِّ ما يخطر في باله، لوجود (سمِّيعة) كأنَّه حكواتي في مقاهي الحارات الشعبيَّة قديمًا؟ هذا مكان له مكانة وقدره، ولا يصعد إليه ويتكلَّم من لا يفهم أصول الكلام وفنون الدَّعوة، كي لا يطالُهُ من أطراف الدعاء ما لا يحبُّ ولا يرضى...

    وما تزال مقالتنا مستمرَّة، في مواقف أخرى قليلة...
    لكنَّها خارج نطاق المسجد والخطب وسواها...
    فإلى اللقاء قريبًا إن شاء الله تعالى...

    في 8-8-2022: الساعة: 12:46 بعد منتصف الليل.

  2. 2 أعضاء شكروا أ. عمر على هذا الموضوع المفيد:


المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...