قد تكون الآمال كبيرة، لكن الآلام أكبر، بخاصة حين تُبنى الآمال على الأخطاء، حين تأتي من الكذب والدجل...
هاتان الفتاتان حين رأتا جثة الولد، تابتا لشدَّة الخوف في نفوسهما، لكنَّ مسؤول السنترال أعاد الرُّعب إلى واحدة منهما باتِّصاله وتهديدها...
وبكذبة أخرى، تدَّعي إحداهما أنها ستذهب إلى طبيبة الأسنان، وتدَّعي الأخرى أنها سترافق صديقتها، وها هما تترافقان إلى عنوان تلك المرأة، وتصعد المبتزَّة إليها...
حركة واحدة سريعة من المرأة، وبعد ذلك حركات عديدة وببطء شديد!
أمَّا البنت الأخرى فقد أُرهقت من الانتظار واحترقَت أعصابها، صعدت إلى البناية ودقَّت باب بيت المرأة، لم تتأخَّر هذه في فتح الباب، لكن جزئيًّا...
بيتها من النوع الذي يقفل بجنزير داخلي، كي لا يحاول أحد الدخول عنوة، وتلك عادة قديمة لا نعرف مغزى لها، حين يُدقُّ الباب تفتحه المرأة قليلًا وتسأل من؟ وهنا يتمُّ الاقتحام؛ لذا بعض البيوت فيها هذا الجنزير، وربَّما الأولى أن لا تفتح المرأة الباب لمن لا تعرف، بدلًا من هذا التعقيد...
لا علينا! هتفت الفتاة تسأل المرأة عن صديقتها في رعب ما بعده رعب!
فالمرأة في يدها ساطور مليء بالدم، وفي يدها قطعة لحم كبيرة، خُيِّل إلى الفتاة المسكينة أنَّ هذه قطعة لحم لصديقتها!
هتفت المرأة في وجه الفتاة تقول لها إنه لا ينقصها مجانين، وأغلقت الباب في وجهها في عنف...
شعرت الفتاة كأن صدمة عنيفة قد هوت على وجهها، ثم استيقظت من شرودها، هل هناك ما يمنع المرأة من تقطيع اللحم بالساطور؟ لن تقطعه بأصابعها، لكن أين صديقتها؟
نزلت الفتاة إلى الشارع، تارة تركض وتارة تهدأ، تجلس وتقف، حتى ظن بعض الناس بها الجنون، وزاد ظنهم، وتحول يقينًا، حين اقترب منها شاب يسألها ما بكِ يا ...؟ فانفجرت في وجهه مثل الديناميت تسأله ما شأنه؟ وليذهب من هنا إن أراد أن لا تعضَّه بأسنانها، وفي اللحظة التالية تتشبث بذراعه هاتفة في رجاء: لا ترحل، أرجوك! ثم تصرخ في عنف: اذهب! اذهب! حالًا فورًا! أحضر أحد إخوتي، أرجوك!
لم تكن الفتاة مجنونة، لكنها ظنت أن شابًا ما يتحرش بها كلامًا، وهي تربَّت أن لا تتكلَّم مع الشباب؛ لأن هذا عيب!
لسنا ضد هذه التربية، ولكن، ماذا عن مقترحاتِكِ لرفيقتِكِ حين تتصل بالرِّجال والشَّباب لتكذب وتضحكي معها على آلام تسبَّبتما فيها للناس؟
انتبهت الفتاة على أمر، هذا الشاب ناداها باسمها، وجهه مألوف، نعم، إنه صديق إخوتها الشباب؛ ومن غير أخ لها يمكنه إنقاذ الموقف؟
نتذكر في بداية القضية قلنا إن فتاة منهما لا إخوة لها، وفتاة لها أربعة إخوة شباب، ولقد جاؤوا معًا يركضون، أختنا تجلس على قارعة الطريق! هل تتسول؟ ما الذي جاء بها إلى هذا المكان أساسًا؟ أخبرتهم أختهم بأن صديقتها صعدت إلى شقة في هذه البناية لترى امرأة ما (صديقة لها)! وكان ذلك منذ ساعات، والمرأة تنكر رؤيتها، وانطلق الشباب الأربعة، معهم صديقهم، اندفعوا في درج البناية، والرعب يملأ قلوبهم...
أخذوا يدقون باب بيت المرأة في غلظة، ويصرخون بأعلى أصواتهم افتحي، نعرف أنَّ الفتاة عندَكِ، إياكِ والتهور... انفتحت بيوت الجيران جميعًا، على أصوات الصراخ، وماذا تقولون؟ يا للهول! هذه المرأة شبه مجنونة! قلبها طيب عادة، لكنها تأخذ أدوية أعصاب كثيرة، وأحيانًا تصاب بنوبات جنونية، وارتفعت الأصوات من أمام باب بيت المرأة أن اطلبوا الشرطة حالًا، وتطوع بعض الجيران بالاتصال بالشرطة، ويُشهد لهم بكفاءة الأداء، فلقد جاؤوا مسرعين، ولكن...
صوت عنيف سمعه الجميع، صوت مرعب، صرخة هائلة وارتطام، أسرعوا إلى الأسفل، ويا لها من كارثة أسالت دموع الرجال، المرأة صاحبة البيت، وثبت من الشرفة، ولم يكن الهبوط هينًا، لقد وثبت من الطابق الثامن، لتهوي على إسفلت الطريق، ويتهشم رأسها وتتكسر عظامها...
صعد رجال الشرطة ليكسروا باب بيتها، ويا للهول الثاني، بل الهول الأول، البنت المبتزة وجدوها، وليتهم ما وجدوها، فلقد كانت ست عشرة قطعة صغيرة!
ثنائي هوبي يوبي، واحدة تقطعت بالساطور، في نهاية مأساوية أليمة، والثانية صرخت مثل المجانين، ولم تستوعب على نفسها إلا وهي تصرخ، ثم تصرخ، إلى أن جاءت المهدئات في مستشفى الأمراض العصبية بنتيجة، وهدأت أخيرًا، لكن الأمور لم تصل إلى خواتيمها السَّعيدة كما تظن، فأمامها محاكمة!
هل كان رجال الشرطة يلعبون هذه المدة؟ لقد انتبهوا على تأخر مسؤول السنترال في تسليمهم داتا الاتصال الواردة إلى منزل الرجل الذي قتل ابنه، أو حتى إنكاره وجود هذه الداتا عنده، وقادتهم تحرياتهم إلى أن هذه المرأة المجرمة المنتحرة هي امرأته، وأن العلاقة بينهما ليست على ما يرام، قبضوا عليه، ادعى الحزن والتأثر، وحين بدأ الاستجواب بوسائل مؤلمة، اعترف بكل شيء في لحظات، وعادت الشرطة إلى التحريات، هاتان الفتاتان لا تفترقان عن بعضهما، وفي هلوسة المسكينة حين رأت جثة رفيقتها، وكلما استيقظت من سباتها، كانت تتكلم على الجريمة والابتزاز والاتصالات...
اعترفت الفتاة بأنها لم تتصل بأحد، فقط كانت أحيانًا تقترح على رفيقتها، واعترفت بكل الاتصالات التي تمت، وكم كانتا تحتفلان بعد كل مكالمة بنجاحهما، اعترفت ولم يكن أحد في حاجة إلى تأكيد اعترافها أو إنكاره، فلقد تطابق كلامها حرفيًّا مع محتوى داتا الاتِّصالات التي استرجعتها الشرطة واستمعت لها...
ظنت الفتاة أنها سترجع إلى بيتها، ولكن، ما كانت الظنون لتجعل الحياة سعيدة، فهي مشاركة في الجرائم، شاءت أم أبت، هي مشاركة لرفيقتها في طلاق امرأة، وضرب فتاة حتى كادت تتكسر عظامها، وجلطة امرأة أخرى، ووفاة شاب مسكين، هي مشاركة لرفيقتها في عملية ابتزاز حقيرة، بل تتحمل - قانونًا - جزءًا في مسؤولية مقتل رفيقتها...
ولكن، لأنها دون السن القانونية، و(لا تفهم) كثيرًا، حكم عليها القاضي بالسجن ثلاث سنوات، تبدأها في الأحداث، وتنهيها في سجن النساء...
صرخت البنت وبكت، استرحمت وتوسلت، لكن القانون لا يعترف بهذه المظاهر، ولو أن كل مخطئ بكى وقت الحكم عليه واسترحم، بل وأغمي عليه، سينال العفو، لما سُجن أحد في التاريخ كله!
لكن المأساة لم تنته بعد! وقت المحاكمة لم يحضر أهل الفتاة، أبوها وأمها وإخوتها الشباب؟ لا! ليس هؤلاء فحسب، بل أعمامها وأخوالها كذلك، أعلنوا تبرأهم منها في القرية كلها، وأنها ليست ابنتهم ولا يعرفونها...
هذا قاس جدًّا، لكن هل نلومهم؟ لا أعلم، فما حدث ليس هينًا، ابنتهم، وهم مسؤولون عن تربيتها، تسببت ورفيقتها في خراب البيوت، الرجل الذي طلق امرأته ثلاثًا ندم على ذلك، وبم يفيد الندم؟ لن يستطيع استرجاع امرأته، فالطلاق بالثلاث، والشاب الذي ضرب أخته حتى كاد يكسر عظمها، وقبل ذلك خرجت بلباس النوم القصير نسبيًا إلى الشارع، وهي ملتزمة بالآداب العامة، اعتذر إلى أخته وقبَّل رأسها، لكن هل تنسى الألم؟ هل تنسى أنه لوى ذراعها في الشارع حتى كاد يحطمها، وأنه كسر العصا الغليظة على جسدها؟
الأم التي جُلطت، الشاب الذي بصق أبوه وإخوته عليه، وضربه أبوه ليعترف من البنت التي زنى بها، ليحاولوا إصلاح الخطأ، هذا رُمي بكبيرة من الكبائر، هو منها براء، لأن ابنتهم تريد أن تتسلى وتضحك وترقص!!!
لم تنته المأساة بعد، في السجن عانت البنت الأمرين، صارت تشتغل في السجن في تنظيفه وغسل الملابس، مقابل أجر زهيد، لتستطيع تأمين بعض الطعام الإضافي لها، أو لتحنو عليها سجينة ما وتطلب من أهلها أن يحضروا لهذه المسكينة بعض الملابس ولو كانت قديمة مهترئة، كي لا تبقى في ملابسها نفسها ثلاث سنوات كاملة...
خرجت البنت، لا أحد في انتظارها خارج باب السجن، لماذا؟ آه! لأن أهلها لا يعلمون أنها خرجت! أخذت تركض وتركض في جنون تريد أن ترى أباها وأمها، تريد أن تنام في سريرها، تريد وتريد... ولكنها كانت تحلم!
وصلت إلى بيتها بعد أن استقلت سيارة أجرة، لأنها لن تستطيع أن تركض عدة ساعات حتى تصل إلى بيتها، دفعت ما في جيبها من نقود زهيدة، وربما كانت الأجرة أكثر، وربما حنا عليها السائق، لكن أهلها لم يفعلوا!
دقت الباب في لهفة، وهي تصيح: أنا جئت، افتحوا! فتح أبوها، نظر إليها في برود وبغض، ابتسمت في سعادة، همت بالارتماء بين ذراعيه، أغلق الباب في وجهها في عنف شديد، وجمدت المسكينة!
عادت تدق، تستغيث بأهلها، أرجوكم أنا جائعة، بردانة، ولا أحد يرد، بل إن بعض الناس من أهل القرية مروا بها، رأوها، فأشاحوا بوجوههم في احتقار...
في انكسار تام مشت البنت، عيناها في الأرض، دموعها مثل الشلال، ولا أحد يهتم بها، مشت حتى كادت تنفطر قدماها، مشت حتى حل الظلام، وجلست في زاوية ما، ترتجف، بردًا ورعبًا...
ولكنْ، لم تكن نهايتها الموت جوعًا أو في أنياب حيوان مفترس، آخر أخبارها أن امرأة تتبع جمعية ما لرعاية المشردين قد عثرت عليها، فأخذتها معها إلى تلك الجمعية، ومن بعدها لا نعلم عنها شيئًا...
هل هي المخطئة؟ نعم، والمخطؤون أكثر وأكثر أهلها، وأهل رفيقتها، لا تربية ولا مراقبة ولا سؤال عمَّا فعلْتِ في يومِكِ هذا، ولا شيء، هي عند رفيقتها ساعات وساعات كل يوم، تراها أكثر مما ترى أهلها، هي بذلك سعيدة، بنت وبنت تتكلمان، بما لا تستطيعه بنت مع أربعة شباب، ولكن أهلها لم يراقبوا ولم يتابعوا، لكنهم عاقبوها في قسوة شديدة، ربما تستحقها، لكن الخطأ عليهم ليس هينًا...
تنتهي قضية هوبي يوبي، وكالعادة هي قضية حقيقية، ولكن ربما نغير قليلًا في بعض الأحداث لأننا نكتبها من الذاكرة، غير أن الأساس صحيح 100%...
نسأل الله أن يحمي بناتنا من الوقوع في مثل هذه الأخطاء...
وإلى اللقاء في قضية أخرى إن شاء الله...