الشجاعة .. طريق الهداية
تأمل معي هذا الموقف لهذا الشجاع الذي بتَّ الجُبْنَ بطلاقٍ بائن بغير رجعة، كان هذا الشجاع في أرغد
عيش وأهناه، كان في كفالة عمه، يتلذذ بعيشه، وما إن سمع بخبر ذلك النبي العظيم محمد بن عبدالله الكريم - صلى الله عليه وسلم - حتى طار قلبه سروراً، وابتهجت نفسه سعادة وحبوراً ، فما زال يبحث عن أخباره، ويسأل عن أحواله، وما زال يتخيل شكل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت أمنية رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - رابطة على فؤاده، لا تفارق ناظريه، حتى تاقت تلك النفس الطيبة للهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ يحدث نفسه بالهجرة.
فكان بين أهله شارد الذهن، كثير السرحان، حتى أوجس بعض أهله خبره، وعلموا همه، فما إن علم عمه - الذي يقوم على رعايته، وينفق عليه - بهمه ومراده، غضب غضباً شديداً، بل أرغى وأزبد، وصرخ وهدد، ونهى هذا الشاب عن إسلامه وهجرته.
حتى أن عمه هدده وهو صاحب النفقة واليد العليا عليه إن هو ذهب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجرده من كل شيء، نعم كل شيء.. حتى ما أعطاه من الثياب.
لكنه قابل عقيدة وثباتاً، وشجاعة ورباطة جأش، فكان في صلابته كالجبل الأشم، وفي وضوحه كالسيف الصقيل، فلم تصده تلك التهديدات، ولم يردعه ذلك الوعيد، بل زاده ذلك ثباتاً، وعزماً على السير إلى الله ورسوله.
ولما جمع الشاب متاعه، وعزم على الهجرة، قامت الدنيا ولم تقعد، وحصل بعد ذلك ما يحصل بين باغي الخير والصاد عنه.
لكن صاحبنا كان ذا شجاعة عالية، ونفس أبية تواقة؛ ولسان حاله يقول: خذ كل شيء: الأموال، والطعام، والمسكن، بل حتى الثياب، بل حتى الجسد خذه، لكن دع فؤادي يطير إلى عشه ومسكنه، دع قلبي يرفرف بين يدي رسول رب العالمين ليهنأ بلقياه.
فصح فيه قول القائل:ضع في يدي القيد ألهب أضلعي *** بالسوط ضع عنقي على السكينِفعزم الشجاع على الهجرة، ونفذ العم ما وعد به فجرده من كل شيءٍ حتى الثياب التي أنعم بها عليه، وطرده حتى يصبح لا مأوى ولا مسكن بل ولا ملبس.
لن تستطيع حصار فكري سـاعة *** أو نزع إيمـــــــاني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقـــلبي في يَدَيْ *** ربي وربي حـــــافظي ومـعـيني
فأعطته أمه بجاداً - قطعة قماش- فقسمه نصفين اتزر بأحدهما، وارتدى الآخر.
ثم سار الشجاع الذي طلق الدنيا، وداس ذل الكفر، وهوان المعصية بقدميه الطاهرتين، يحدوه الشوق، ويسوقه الأمل.
سار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس له ومعه إلا بجادين، فبلغ ذو البجادين غايته وهدي إلى خيري الدنيا والآخرة، فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به وصدق، وكان حسن السيرة والسريرة - رضي الله عنه -، هذا هو الصحابي الجليل ( ذو البجادين ) عبد الله بن عبد نهم- رضي الله عنه -.
أما خاتمة هذا المهاجر الشجاع فكانت خاتمة أهل السعادة والحياة الطيبة، فقد واراه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بيديه الشريفتين وقال: ( اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه) فهنيئاً له، ثم هنيئاً له حيث قُبِرَ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا له.
المصدر : صيد الفوائد
المفضلات