الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
نبينا محمد وعلى آله ومن والاه إلى يوم الدين ..
فمضمون الخطبة هو الجانب الأهم في الخطبة، وهو الذي عليه مدار إصلاح القلوب والأعمال، والأخلاق والسلوك،
تثبيتا للصواب، وتكثيراً له، وتحذيراً من الخطأ وتقليلا له، لما أننا نريد الوصول بمستوى الخطابة في المسجد إلى
مكانته اللائقة به, هناك عدة توجيهات وأسس تنطلق منها الخطبة الهادفة وترتكز عليها:
1- يحسن أن يكون لخطبة الجمعة موضوعٌ واحد غير متشعب الأطراف ولا متعدد القضايا، فإن الخطيب الذي يخوض
في أحاديث كثيرة يشتت الأذهان، وينتقل بالسامعين في أودية تتخللها فجوات نفسية وفكرية بعيدة، ومهما كانت عبارته
بليغة، ومهما كان مسترسلاً متدفقًا فإنه لن ينجح في تكوين صورة عقلية واضحة الملامح لتعاليم الإسلام.
والوضوح أساسٌ لا بد منه في التربية، والتعميم والغموض لا ينتهيان بشيء طائل، وخطبة الجمعة ليست درسًا نظريًا
بقدر ما هي حقيقة تشرح وتغرس.
2- عناصر الخطبة يجب أن يسلم أحدها إلى الآخر في تسلسل منطقي مقبول كما تسلم درجة السُّلم إلى ما بعدها دون عناء،
بحيث إذا انتهى الخطيب من إلقاء كلمته كان السامعون قد وصلوا معه إلى النتيجة التي يريد بلوغها، وعليه أن ينتقي من
النصوص والآثار ما يمهد طريقه إلى هذه الغاية.
3- ولما كانت الخطبة الدينية تنسج من المعاني الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح فإن لُحمتها
وسُداها يجب أن يكون من الحقائق المقبولة، وفي آيات القرآن الكريم، ومعالم السنة المطهرة متسعٌ يغني عن الوعظ والإرشاد،
ولذلك لا يليق البتة أن تتضمن الخطبة الأخبار الواهية أو الموضوعة.
وإذا كان العلماء قد تجوَّزوا في الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال فقد اشترطوا لذلك: ألا تخالف قواعد
الإسلام ولا أصوله العامة، وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة مجال رحب للخطيب الفاقه، وفي سيرة الرسول- صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم- والخلفاء الراشدين والأئمة والمتبوعين ما يُغني عن الأساطير والأوهام.
4- لا يجوز أن تتعرض الخطبة للأمور الخلافية، ولا أن تكون تعصبًا لوجهة نظر إسلامية محدودة؛ فإن المسجد يجمع
ولا يفرق، ويلم شمل الأمة بشُعب الإيمان التي يلتقي عندها الكل دون خوض في المسائل التي يتفاوت تقديرها، وما أكثر
العزائم والفضائل التي تصلح موضوعًا لنصائح جديدة وخطب موفقة.
وقد شقى المسلمون بالفرقة أيامًا طويلة، وجدير أن يجدوا في المساجد ما يوحد الصفوف، ويطفئ الخصومات.
5- بين الخطبة والأحداث العابرة، والملابسات المحيطة، والجماهير السامعة، علاقة لا يمكن تجاهلها، ومما يزري
بالخطيب ويضيع موعظته أن يكون في وادٍ والناس والزمان في وادٍ آخر.
ولأمرٍ ما نزل القرآن الكريم منجَّمًا على ثلاث وعشرين سنة، فقد تجاوب مع الأحداث وأصاب مواقع التوجيه إصابةً رائعة.
ولما كان القرآن شفاء للعلل الاجتماعية الشائعة فإن الخطيب يجب عليه أن يشخص الداء الذي يواجهه، وأن يتعرف على
حقيقته بدقة، فإذا عرفه واستبان أغراضه وأخطاره رجع إلى الكتاب والسنة فنقلَ الدواء إلى موضع المرض، وذلك يحتاج
إلى بصيرة وحذق فإن الواعظ القاصر قد يجيء بدواءٍ غير مناسب فلا يوفق في علاج، وربما أخطأ ابتداءً في تحديد العلة
فجاءت خطبته لغوًا وإن كانت تتضمن مختلف النصوص الصحيحة.
6- هناك طائفة من الأحاديث تسوق الأجزية الكبيرة على الأعمال الصغيرة، وقد قرر العلماء المحققون أن هذه الأحاديث
ليست على ما يُفهم منها لأول وهلة، وأن ما فيها من أجزية ضخمة إنما هو لأهل الشرف في العبادة وأهل الصدق في
الإقبال على الله، وليس ذلك للأعمال الصغيرة التي اقترفت بها.ومن هنا لا يجوز للخطيب أن يضمن خطبته هذه الأحاديث
سردًا مجردًا فيُحْدث فوضى في ميدان التكاليف الشرعية، ولكن إذا قضى ظرفٌ بذكر هذه الأحاديث ذكرها مع شروحها الصحيحة.
7- تقوم التربية الدينية على بيان الجوانب الخلقية والاجتماعية في الإسلام وشرح ما يقترن بالخير والشر من معانٍ حسنة
أو سيئة، ومن عواقب حميدة أو ذميمة، ولا بأس من التعريج على الأجزية الأخروية، وعرض ما أعده الله في الآخرة
للأبرار والفجَّار، بيد أن الإسهاب والتفصيل في ذكر الأجزية المغيبة لا لزوم له، ويكتفي بالإلماح إلى ما جاء في القرآن
والسنة عن ذلك دون تطويل وتعمق.
8- من الخير أن تتضمن خطبة الجمعة أحيانًا شيئًا من أمجاد المسلمين الأولين الثقافية والسياسية، وتنويهًا بالحضارة
اليانعة التي أقامها الإسلام في العالم، مع الإشارة إلى أن ينابيع هذه الحضارة تفجرت من الحركة العقلية التي أحدثها القرآن
الكريم، واليقظة الإنسانية التي صنعها الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ويكون الغرض من هذه الخطب
على اختلاف موضوعاتها أن تُرجع إلى المسلمين ثقتهم بأنفسهم ورسالتهم العالمية.
9- معروف أن هناك فلسفات أجنبية ونزعات إلحادية تسربت إلى الأمة الإسلامية في كبوتها التاريخية الماضية، وطبيعي
أن تتعرض الخطبة لذود هذه المفاسد النفسية عن أبناء الأمة، ووظيفة الخطبة في الإسلام عندئذ أن تتجنب الأخذ والرد
والجدال السيء، ولكن تعرض الحقائق الإيجابية في الإسلام بقوة وترد على الشبهات دون عناية بذكر مصدرها لأن المهم
هو حماية التراث الروحي والعلمي، وليس المهم تجريح الآخرين وإلحاق الهزائم بهم.
10- قبل أن يواجه الخطيب الجمهور ينبغي أن تكون في ذهنه صورة بينة لما يريد أن يقوله، بل يجب أن يراجع نفسه قبل
الكلام ليطمئن اطمئنانًا إلى صحة القضايا التي سوف يعرضها، وإلى سلامة آثارها النفسية والاجتماعية.
وعليه أن يتثبت من الأدلة والشواهد التي يسوقها في عرض الحديث، فإن كان قرآنًا حفظه جيدًا، وإن كان سنة رواها بدقة،
وإن كان أثرًا أدبيًا أو خبرًا تاريخيًا فإن توفيقه يكون بحسب مطابقته أو اقترانه من الأصل المنقول عنه.
إن التحضير المتقن دلالة احترام المرء لنفسه ولسامعيه وقد تفاجأ الإنسان مواقف يرتجل فيها ما يلقي به الناس يصور ما
بنفسه، والواقع أن القدرة على الارتجال تجيء بعد أوقات طويلة من الدربة على التحضير الجيد، وعلى تكوين حصيلة
علمية مواتية لكل موقف.
ومع ذلك فإن المهارة في الارتجال لا تغني عن حسن التحضير للعالم الذي يريد أداء واجبه بأمانة وصدق والذي يقدر
إنصات الناس له واحتفاءهم بما يقول.
11- الإيجاز أعون على تثبيت الحقائق، وجمع المشاعر والأفكار حول ما يراد بثه من تعاليم؛ فإن الكلام الكثير ينسي
بعضه بعضًا، وقد تضيع أهم أهدافه في زحام الإطناب والإضافة.
ألا ترى الأرض إلى قدرٍ محدد من البذور كيما تنبت، فإذا كثر النبات بها تخللها الفلاح باجتثاث الزائد حتى يعطي البقية
فرصة النماء والإثمار، كذلك النفس البشرية لا تزكو فيها المعاني إلا إذا أمكن تحديدها وتقديمها، أما مع كثرة الكلام
وبعثرة الحقائق فإن السامع يتحول إلى إناء مغلق تسيل من حوله الكلمات مهما بلغت نفاستها.
وللإطناب الممل أسباب معروفة، منها: سوء التحضير فإن الخطيب الذي يلقى الناس بالجزاف من الأحكام والتوجيهات لا
يدري بالضبط أين بلغ قوله، وهل وصل إلى حد الإقناع أم لا، فيحمله ذلك على التكرار والإطالة، وما يزداد من الجمهور
إلا بعدًا.
وقد تنشأ الإطالة عن سوء التقدير للوقت والمواقف، فيظن الخطيب أن بحسبه أن يقول ما عنده، وعلى الناس أن ينصتوا
طوعًا أو كرهًا- وهذا خطأ.
ومما يُحكى في قيمة الإيجاز أن أحد الرؤساء طُلب منه إلقاء خطبة في بضع دقائق فقال: أمهلوني أسبوعًا فقيل له: نريدها
في ربع ساعة قال: أستطيع بعد يومين، فقيل له: فإذا طلبنا في ساعة؟ قال: فأنا مستعد الآن.
إن الإيجاز يتطلب الموازنة والاختيار والمحو والإثبات، أما الكلام المرسل فالجهد العقلي فيه أقل، والحقيقة أن خمس دقائق
تستوعب علمًا كثيرًا، وعشر دقائق وخمس عشرة دقيقة تستوعب خطبة أو محاضرة جيدة.
نسأل الله لنا ولكم السداد والتوفيق
المفضلات