بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وإلى آخر مقالاتنا في منتديات مسومس الغالية
الدروس التربوية
قريبًا إن شاء الله تعالى.
وسنحاول أن يكون ذلك في الغد لا أبعد من ذلك.
حياكم الله وبياكم
الكاتب: عمر قزيحة.
كانت فكرة كتابة هذه المقالة، بسبب خطأ مني أعترف به، وذلك بعد بعض (النق) من إحدى الطالبات عندي هذه السنة الدراسية، وذلك من أشهر قلائل، وكان أن قلت لها ببعض الجفاء: (اسكتي يا...)، وإذ أحسْسَتُ بما أصابها من القهر لهذه الكلمة، استدركت قائلًا لها: (أعتذر يا...)، ورغم ارتباكها وكلامها أنه لا داعي للاعتذار، إلا أنني كرَّرْتُه لها، وذلك لأنني شعرتُ أنه ليس من حقي توجيه كلمة قاسية لها، وحتى لو أردتُ معاقبتها فليس لي أن أخدش مشاعرها، فضلًا عن جرحها.
وتداعت إلى ذهني بعض الحوادث المتعلقة بالدروس التربوية الخادعة ربما، ومن ذلك ما حصل من سنوات قلائل، إذ كنت أستاذًا في إحدى الثانويات، غير الثانوية الحالية التي أدرِّس فيها، حيث كان اجتماعنا في الإدارة في أحد الأيام الدراسية وقت الاستراحة، وسبب الاجتماع شكوى وصلت إلى المدير بحق زميلة أستاذة معنا، من الجيل القديم، قالت لأحد التلاميذ المشاغبين: (أغلق فمك)، وهذا الأمر ينافي التربية بكل تأكيد، لذا أراد المدير أن نتعهد جميعًا بألا نهين التلميذ، وذلك أن التلميذ إنسان، كله مشاعر وعواطف وأحاسيس، وما إلى ذلك!
واستهلك الاجتماع وقت الاستراحة بأكملها، لذا غادر الزملاء إلى صفوفهم، وبما أن الحصة هذه كانت حصة مناوبة لي، فإنني اتجهت نحو مكتب أحد النظار الأصدقاء لأجلس معه قليلًا، وإذ بالمدير يجري على الدرج خلفي، وقد تقطعت أنفاسه، يريد أن يسألني هل أقبل أن أعلِّم هذه الحصة بدلًا من الحصة الأخيرة، ولكنه لم يسألني ذلك، فلقد انقطع التيار الكهربائي فجأة، ليرتفع صوت صياح مزعج من بعض التلاميذ في أحد الصفوف، وفوجئت بالمدير الذي يدافع عن أحاسيس التلاميذ ومشاعرهم يقتحم الصف كأنه ضابط مخابرات يقتحم وكر جواسيس، صارخًا بصوت هادر: (يا كلاب)!
أردتُ أن أعاتبه هنا، وأذكِّره بكلامه لنا منذ دقائق قليلة، لكنه هتف بعدها، من قبل أن أتكلم: (أنا أعتذر)، فظننت أن توازنه العقلي قد عاد إليه، ولكنه تابع في توحش: (نعم أعتذر، لأنني لم أحضر إليكم معي بعض العظام لتأكلوها، لا تؤاخذوني)!
أردتُ، كذلك، أن أعترض على ما يفعله، خاصة أن ملامح الصدمة بَدَتْ واضحة على وجوه التلاميذ، ولكني فوجئت به يقول بحزم: (أرجو أن تذكِّر زملاءك بضرورة المرور على مكتبي للتوقيع على عدم إهانة التلاميذ نهائيًا، واحترام مشاعرهم وأحاسيسهم)، ليصيح بعض التلاميذ كالمصعوقين: (ماذااااا)؟ وإذ به يصرخ في وجوههم: (هشت، هشت)!
فقلتْ له هنا، وقد وجدْتُ أخيرًا فرصة للكلام: (المهم ألا يحترموهم كما تفعل أنت بكل تأكيد، وإلا فسيتخلى التلاميذ عن مشاعرهم وأحاسيسهم لك، وبكل تأكيد)! وبكل بساطة وافقني المدير إذ ابتسم، وهو يقول: (نعم، نعم، بكل تأكيد)!
كان درسًا تربويًا حقيقيًا لنا! أن يعترض المدير لأن زميلة لنا قالت لتلميذ (أغلق فمك)، ولم يكتفِ بأن يعاتبها على انفراد، بل أقام اجتماعًا للجميع، ما يلزمنا كلنا بالتوقيع على المضمون، حتى لو كنا لا نهين التلاميذ، ولكن لم أفهم حقيقة أيهما الأسوأ، كلمة (أغلق فمك)، أم أوصاف: (الكلاب) وما يستلزمها من (العظام) والـ (هشت هشت)!!
لكن الدروس التربوية لم تكن فحسب ونحن كبار، بل إن أول درس تربوي شهدْتُه كان في طفولتي، وكنتُ، آنذاك، في صف الابتدائي الثاني، أي أن عمري كان ست سنوات وأشهر، تلك الأيام السعيدة التي كنا نشتري فيها دفوف الشوكولا أو البسكويت بربع ليرة لبنانية، والكعكة بالجبنة بنصف ليرة لبنانية، ويومًا ما، وبعد انتهاء الاستراحة، وإذ هَمَمْنَا بالتوجه إلى صفوفنا، استوقفنا أحد النظار، ليتساءل: (من أضاع فرنكًا منكم)؟
وأيامها لم يكن الفرنك سوى ذكرى! من يمتلكه ربما يفرح لامتلاكه كنزًا أثريًا، ولكن لا يمكننا التعامل بالفرنك ولا شراء أي شيء كان به، ولكن الناظر أراد _ على ما يظهر لنا _ إعطاءنا درسًا تربويًا بالغ القيمة في الأمانة التي تتجاوز الحدود المألوفة، وهو يصرخ مكررًا سؤاله عِدَّة مرات، وبعد ذلك لحق بنا إلى الصفوف، لِيَمُرَّ بكل صف صارخًا في وجوه التلاميذ: (من أضاع منكم فرنكًا)؟
ربما نحسب لهذا الناظر أنه أمين (جدًا)، لكني إذ أردْتُ اختبار ذكاءه، وهل ذاكرته قوية أم ضعيفة، أعطيته قلم الحبر الأحمر الخاص بي في بداية الفترة الصباحية، مدَّعيًا أنني وجدته، لأرى هل سيتذكر أنني أنا من أعطاه القلم حينما يسألنا في نهاية الفترة الصباحية، ونحن نتجه إلى صفوفنا الحصة الأولى: (من أضاع منكم قلمًا أحمر)؟
وتوضيحًا أقول، أيامها لم يكن يُسمَح لنا أن نكتب إلا بأقلام الرصاص، ومن يمتلك قلم حبر أزرق كان يفتخر بنفسه وبقلمه، فكيف الحال والقلم أحمر اللون؟ يا لها من سعادة! ولكن لا! لا يوجد سعادة الآن! الناظر يضع القلم في جيبه، صائحًا قبلها: (يسلمو)!
ولم تكن هنا نهاية الدرس التربوي للأسف، فاليوم التالي وجدتُ ليرة لبنانية كاملة، وهو مبلغ يُعتَبَر كبيرًا بالنسبة إلى كثير من التلاميذ، يعادل مصروفهم اليومي في أربعة أيام كاملة، وكان لا مناص من تسليمها إلى الناظر، ولكني حاولتُ أن أسترجع قلمي، فأعطيته الليرة قائلًا له: (لقد وجدتُها، مثلما وجدتُ القلم)، ولم أستطع إتمام كلمتي، والناظر يصيح كما فعل الأمس: (يسلمو)! وينادي أحد التلاميذ ويعطيه الليرة طالبًا إليه أن يشتري له كعكة بالجبن وعلبة بيبسي معدنية!
وإذ أردتُ الانصراف، وقد يئسْتُ تمامًا من استعادة قلمي، استوقفني يتساءل إن كنتُ وجدتُ شيئًا آخر، وما هو؟ فكان ردي: (أعوذ بالله)! وأخبرتُه أنني لم أجد شيئًا ولا أريد أن أجد شيئًا بعد الآن، فلقد تعلمت الدرس التربوي، وحفظته فعلًا، وكل ما أرجوه ألا أكون محورًا فيه، لأنني لن أسترجع ما أضيعه، إلا إن كانت قيمته في قيمة الفرنك اللبناني وأقل من ذلك كذلك!
وفي إحدى السنوات اللاحقة، وكنا قد كبرنا قليلًا، أراد أحد أساتذتنا إعطاءنا درسًا تربويًا عميقًا في هذه الحياة، فترك الدرس المقرر في الكتاب، ليعطينا درسه القيِّم: (إياكم ثم إياكم ثم إياكم) _ مكرِّرًا إياها عدَّة مرات _ (أن أسمع أنَّ أحدًا فيكم يدخن، وذلك لأنكم لا تعلمون أن التدخين ضار بالجسد، لا تعلمون أن التدخين يسبب عشرات الأمراض) _ متحفًا إيانا بالمعلومة الرهيبة الآتية: (التدخين سم، سم أسوأ من سم الفئران والجرذان)!
وطبعًا كان يقصد أن التدخين سم أسوأ من السم الذي يقتلون به الفئران والجرذان، ولكن لا أعتقد أنه كان مهتمًا كثيرًا للدقة في التعبير، وهو يتابع بشراسة: (ولكنْ، إذا رأيتُ، أو سمعتُ، أن أحدًا فيكم يدخن، فسأضربه، سأكسر يديه، سأكسر رجليه، سوف لن أترك فيه جزءًا يتحرك ليستطيع التدخين بعدها)!
والحقيقة أن الدرس تربوي فعلًا، بل هو تربوي بامتياز، فرغم حماسة الأستاذ المبالغ بها، والتي تكاد تدفع به إلى درجة تكسير الأيادي والأرجل، بل وربما قتل التلميذ الذي يدخن، إلا أن صاحب الدرس التربوي كان (يتكرم) علينا بهذه الحَكَم والمواعظ، وهو ينفث دخان سيجارته، بمنتهى الاستمتاع بها!
وفي صف آخر، شهدنا درسًا تربويًا آخر، لا يقل أهمية وتأثيرًا على الإطلاق، يومئذٍ أجرى الأستاذ لنا مسابقة، وكان هذا الأستاذ يتميز بالمراقبة الحازمة، ويشتهر بين التلاميذ أنه يكشف كل محاولات الغش، مهما بلغت براعة أصحابها، والمسابقة كانت كبيرة، لكني لم أبالِ بذلك، فلقد درست الدروس جيدًا، ولكن لم نكد نبتدئ بالكتابة، حتى بدأ الأستاذ يرقص!
كدنا نظن أن الأستاذ يشعر بالسعادة للعلامات الكاملة التي سننالها (حتمًا)، ولكنه بدَّدَ لنا هذا الوهم، وهو يخبرنا بصوته المرتجف أننا مسلمون، ولا يجوز الغش، فالله تعالى لا يحب الغشاش، ويغضب عليه، وخرج الأستاذ من الصف باترًا كلامه بنفسه، ففتح زميلنا الذي يجلس أمامي الكتاب وأخذ ينسخ منه، وأراد زميلي الذي يجلس جواري أن ينال (حصته) فضرب رأس الغشاش بإصبعه بطريقة عنيفة، وهو يهمس باسمه، لكن الأخير استقبل هذا الهمس بصراخ غاضب: (ما هذا؟ هل أنت مجنون)؟ وكان الأستاذ هنا بجوار نافذة الصف تمامًا، في الممر المؤدي إلى الملعب، فكان أن ضرب رأس الغشاش بنفسه، وظن الأخير أن زميله هو الذي يفعل ذلك، فصرخ مثل الوحوش ناعتًا إياه بالدب والبغل والحمار والكلب، وبعض الألفاظ الأخرى التي لا يمكن لنا كتابتها، وهو يستدير لينظر إليه، وليباغت بالأستاذ ينظر إليه مباشرة من نافذة الصف!
وهنا بدأ الدرس التربوي (العميق)! فيض من الألفاظ والعبارات التي تنتمي إلى عالم الحيوانات، وعالم الأحذية، وعوالم أخرى لا مجال لذكرها، وفوق ذلك، يصرخ الأستاذ مؤكدًا: (ألا تعلم أن السباب عمل غير أخلاقي يا حمار)؟! وإذ يحاول المسكين تسويغ فعلته، يصرخ الأستاذ في وجهه مذكرًا إياه ومؤكدًا أن (السباب لا يجوز) يا (...)!! الحمد لله تعالى أن الأستاذ يؤمن أن السباب لا يجوز! فإذا كان قد تلفظ بكل هذه الألفاظ، والسباب لا يجوز، فما تراه فاعلًا، لو كان يعتقد أن السباب يجوز؟!
وبما أننا ذكرنا من يعتقد أن السباب لا يجوز، فإن أعوام الزمان الماضيات الطوال قد وضعتني أمام درس تربوي جديد من الطراز نفسه، كنت أتابع آنذاك منتدى يختص بنشر أخبار باب الحارة، وكان الجزء الخامس يُعرَض أيامها، وإذ بعضو (متحمس) يكتب أنا أعلم ما الذي سيحصل في الحلقة الأخيرة من باب الحارة، معتز سَيُقَبِّل زوجته، فكَّرْتُ في أن ما قاله أمر طبيعي، بمعنى هو لا يكلمنا عن شخصين رآهما في الشارع، بل عن مشهد في مسلسل، والمنتدى بأكمله قائم لأجل هذا المسلسل، لكني فوجئت بعدها بردود تربوية تفوق المألوف، وكلها تؤكد أن المنتدى (محترم)، وكلٌّ منها يصف المسكين بإحدى صفات الحيوانات أو حتى النجاسات، وكل هذا لتوكيد فكرة أن المنتدى محترم، لا يقبل بالكلام الجارح، ولا بالإساءات! أما ما يتعرض إليه هذا المسكين من الكلام الجارح، فلا تفسير له سوى أننا نعيش درسًا تربويًا عميق المعاني!
وتختلف أنواع الدروس التربوية وضروبها أحيانًا، فمنها ما يضطر بك أنت إلى تربية غيرك، لو اقتضى الأمر هذا، ومن ذلك مرة كنت فيها في سيارة أجرة، ركبت فيها من موقفها الرسمي، متجهًا إلى الجامعة اللبنانية، وطبعًا السائق لا ينطلق بأقل من خمسة ركاب، وكان الركاب الآخرون سينزلون جميعًا قبلي، وإذ وصلنا إلى الجامعة فوجئت بالسائق بتابع بسيارته، وهو يصرخ مدعيًا أنه غاضب: (انزل، ألا تريد أن تنزل؟ اسمع، إن لم تنزل فسأتابع بك إلى الموقف من حيث ركبتَ معي، وعندها ستضطر إلى الركوب في سيارة أخرى، وعندها...)، لم أستطع ألا أربِّيه هنا، فقاطعته قائلًا بتهكم لاذع: (وعندها الله يبارك فيك! أكون قد كسبت مشوارًا مجانيًا، وقطعت طريق الإياب من دون أن أدفع شيئًا، تابع طريقك وأسرع! هيا، هيا)!
ولم أتوقف بالدرس التربوي هنا، رغم أن السائق توقف فعلًا، لكني أفهمته أنني لن أنزل ولو ضرب رأسه باطارات السيارة، إلا إن رجع بي إلى باب الجامعة نفسها، فَلَسْتُ مضطرًا إلى أن أرجع هذه المسافة، ولو كانت قصيرة فعلًا، مشيًا على الأقدام، وقد دفعتُ الأجرة للوصول إلى الجامعة فعلًا، فإما أن يرجع، وإما أنني حجزت مكان راكب، بل راكبين اثنين لأنني أجلس في المقعد الأمامي! وعليه أن يبحث عن ثلاثة ركاب آخرين لا عن خمسة، وجُنَّ جنون السائق، لكنه رجع مثل الأولاد الصغار الطيبين الذين يسمعون الكلام إلى باب الجامعة، بعد أن دار بسيارته دورة لا بأس بها، ونزلتُ من السيارة مستمتعًا بسبابه شبه الصامت، والذي لا يُفْهَم منه أي شيء!
غير أن الدرس التربوي الأكبر كان مع سائق تاكسي آخر، رغم أنني اضطرِرْتُ إلى القيام بأمر يتنافى وكل ما نشأنا عليه وتربَّيْنَا! وقتها كنت مع أحد رفاقي المقربين، وكذلك أخذنا سيارة من الموقف الرسمي نفسه، ولم نكن متَّجِهَينِ إلى الجامعة، بل أردنا زيارة صديق مشترك لنا، ركبنا في المقعد الأمامي، رغم ضيق المكان، وذلك لامتلاء المقعد الخلفي، دفعنا جميعًا الأجرة كالمعتاد قبل أن ينطلق السائق، وسأل كلًا منا أين يريد أن ينزل، وانطلق بعدها ليتوقف من دون أن يذكره أحد في المواقف المطلوبة، وبعد أن نزل آخر الركاب، ركبت صبيَّة مكانه، وفوجئنا بالسائق يبتسم في مياعة، ويبدأ بسيل من الأسئلة والاستجوابات لها، وكأنه يعرفها من زمان بعيد، أو كأنها ابنته أو ابنته أخيه مثلًا! ولفظة (دموازيل) تتردد على لسانه عدَّة مرات، حتى في الجملة الواحدة نفسها، بسبب ومن دون سبب، وكل جملة ينهيها السائق بضحكة مائعة جدًا، وحتى الآن بقيتُ أنا ورفيقي في موقف المتفرج، لم نتدخل رغم ضيقنا الشديد مما يحصل، إلى أن وصَلْنَا، وللعلم لم يسأل السائق عنا، لولا أن هتف رفيقي ينبِّهه كي يتوقف، وما إن فعل حتى نزل رفيقي وتبعْتُهُ، مغلقًا الباب خلفي بكل هدوء، إذ إنني أكره من ينزل من سيارة ويغلق بابها بطريقة عنيفة، إذ في ذلك استهتار بممتلكات الآخرين، فنظر السائق إلى الصبيَّة مبتسمًا ببلاهة، ثم رفع صوته قائلًا لي: (أهذا ما يقوله لك ضميرك)؟
توقفت ورفيقي دَهِشَيْنِ، إذ إننا دفعنا الأجرة مثل سوانا، فور ركوبنا، وقلت له ذلك، لكنه عاد ينظر إلى الصبيَّة ويغمز بعينه مثل الأبله، ويقول لي: (كيف تغلق الباب بقسوة؟ أهذا ما يقوله لك ضميرك؟ أن تَرُدَّ الباب بهذه الطريقة التي لا تفهم)؟!
ورغم أن صديقي حاول أن يمسك بي من ذراعي لنمشي، إلا أنني أردتُ أن أربي السائق، فقلتُ له ببرود: (صدقتَ! أنا لا أفهم، وسأريك عيِّنَةً من قلة فهمي الآن)، وقبل أن يفهم مددتُ يدي لأفتح له الباب ثم رفعتُ رِجْلِي لأركله ركلة عنيفة، هاتفًا بحماسة شديدة: (كووووووووول)!! كان صوت الباب هنا صوتًا رائعًا جدًا، وكم شعرت بالبهجة لاحتقان وجه السائق، لكني لم أكتفِ بعد، فقلتُ له متهكمًا: (هيا يا رجل! الآن تستطيع أن تدَّعي أنك مظلوم، وبحق، أمام هذه الـ"دموازيل" التي جعلَتْكَ أبله رسميًا! والآن، انقلع من هنا)!
وتابعتُ طريقي ورفيقي، وأنا أضحك بسعادة تامة، لهذه التربية التي أتيح لي أن أربيها هذا الأبله، ورغم أن ما فعلتُه به قد مَرَّ عليه ما لا يقلُّ عن خمسة عشر عامًا، إلا أنني أكاد أتخيل كم تباكى السائق أمام هذه الصبيَّة، بل أمام هذه الدموازيل وفق مصطلحات السائق، وكم أخبرها بأنه مظلوم ومسكين!
وبما أنني أذكر قصص سائقي التاكسي، سأتخطى الترتيب الزماني مرة أخرى، لأذكر حادثة حصلت عام 2018م، في شهر تموز، أو كما يُعرَف في بعض البلدان العربية الأخرى شهر يوليو، ووقتها كنت في بيروت، أنهيت عملي في معهد الدكتوراه في العاصمة بيروت، ورجعت بالتاكسي إلى منطقة مركزية، ومن هنا أخذت تاكسي آخر لأركبه متجهًا به نحو وزارة التربية، وكان السائق مائعًا، لكن بشكل مختلف، فلقد أدرك من لهجتي وطريقة كلامي أنني لستُ من سكان العاصمة، فسألني إن كنتُ من طرابلس، وإذ أجبْتُه بالإيجاب، صاح متحمسًا إنه من طرابلس! وركب هنا راكب طلب أن ينزل في منطقة معينة لا أعرفها، وإذ بالسائق يخبره مثله أنه مسيحي أبًا عن جد! وما كاد الراكب ينزل حيث أراد، ويتابع السائق بنا، حتى استوقفه ثلاثة رجال، وكالمعتاد أخذ السائق يسأل عن (انتماءاتهم المناطقية)، ويبدو أنه أدرك أننا _ الآن _ جميعًا مسلمون، فإذ به يهتف بنا مؤكدًا أن جَدَّه كان من الأتقياء الصالحين، رحمه الله، ورغم مغادرة راكِبَيْنِ من الثلاثة، إذ بالسائق يتمادى ليقرأ الفاتحة عن أرواح المسلمين، وهو يقود السيارة، و(الآن)!
ولقد لفظ كلمة (الآن) بإصرار غريب، وبلهجة توكيدية، حتى كأن أمواتنا قد أرسلوا إليه _ من العالم الآخر _ عتابًا لأنه لا يقرأ لهم الفاتحة مثلًا، أو لعله ظن نفسه مساعدًا لملك الموت مثلًا _ لا سمح الله طبعًا _ إذ إنه ترك عجلة القيادة ومَدَّ يديه فوقها، ليقرأ الفاتحة بين الجهر والهمس، والسيارة تنحرف يمينًا بحركة حادة، وتصعد الرصيف وتكاد تنقلب بنا، والراكب في الخلف يصرخ بأعلى صوته بالسائق كي ينتبه، وأنا من جهتي أمسكْتُ بعجلة القيادة وأدَرْتُها قليلًا إلى اليسار، لكن كان من المستحيل أن أتحكم بها تمامًا، وأنا لا أجلس في مقعد السائق.
يبدو أن السائق يعتقد أن ادعاءه الانتماء إلى منطقة كل راكب أو ديانته أمر طريف، يثبت به أنه إنسان رائع، ولا يعلم كم يبدو مائعًا عديم الفهم بهذه التصرفات، إذ يسمعه الراكب نفسه يدعي أنه من هذا الدين ومن ذاك، ومن هذه المنطقة ومن تلك، في آن واحد، حتى تبلغ به المياعة إلى درجة أن يظن نفسه قادمًا، بل عائدًا إلينا من العالم الآخر، ليقرأ الفاتحة عن أرواح المسلمين في تلك اللحظات، ويكاد يرسل إليهم ثلاثة أرواح إضافية، بما فيها روح حضرته شخصيًا!!
وأتمنى بحق، ألا أركب معه مرة أخرى، ولو مصادفة، إذ أخشى أن تَدُبَّ فيه الحماسة ليفتح باب سيارته ويَثِبَ منها، ويتركها تتابع انطلاقتها وحدها، وذلك ليقرأ الفاتحة عن أرواح الركاب الذين يركبونها، براحة وهدوء، من دون أن يزعجوه باعتراضاتهم!
لو أردنا الاستفاضة في الدروس التربوية، لوجدنا أمامنا الكثير من النماذج مما شهدناه خلال سنوات حياتنا حتى الآن، لكنْ ربما يكون أطرف الدروس التربوية حينما يكون أحدنا مخطئًا فعلًا، ويتَّهِم الآخر بالغباء، أو بقلة الفهم، ويرى نفسه مظلومًا، بل وربما تدمع عيناه رثاء لنفسه!
ومن ذلك، إذ كنا مرة في المدينة النبوية الشريفة، ربما كان ذلك عام 2003م، أو عام 2006م، وإذ بامرأة لبنانية تدخل أحد محلات الألبسة، هاتفة بصاحب المحل إن كان عنده (تفريعة وَلَا)، الأمر الذي كاد يصيب البائع بالسكتة القلبية، وهو يحاول أن يفهم ما هي هذه الــ (تفريعة وَلَا)؟ ونظرت المرأة إلى البائع مذهولةً لـ(غبائه)! وذلك أنه (هي تفريعة) وأنت _ أيها البائع _ (وَلَا)!
وطبعًا كلمة (وَلَا) ليست كلمة فيها احترام، ويمكن أن يستخدمها شخص كبير السن، وهو يعاتب ولدًا صغيرًا بسبب خطأ ارتكبه، لكن أن تستخدمها المرأة وهي تكلم البائع كأنه ولد صغير، فهذا أمر غير تربوي إطلاقًا، وبأي حال كان، تَتَابع الدرس التربوي، فرغم أن البائع فهم أن المرأة تذكر كلمتين مختلفتين، إلا أنه لم يفهم مرادها، ورغم محاولات زوج تلك المرأة إسكاتها، إذ ربما يستحيل أن يفهم البائع السعودي معنى هذه الكلمة المحلية، إلا أنها لم تسكت، بل هتفت في وجه البائع غاضبة: (ألم تسمع في حياتك بها؟ هل يوجد بائع ألبسة لا يعرف التفريعة، يبدو أنك غشيم)!
وتوضيحًا نقول إن التفريعة يختلف مفهومها حتى عندنا ما بين المناطق، فبعضها يرى أن التفريعة أشبه بفستان منزلي، لكن لا يمكن للمرأة الخروج به، بل ولا يمكن لها استقبال أحد به حتى النساء، وفي مناطق أخرى التفريعة هي عباءة طويلة ساترة، لكنها من قماش سميك نسبيًا، وعادة لا ترتديها البنت خارجًا، لأنها تنافي الأناقة!
أما البائع المسكين فلم ينفعه استنكارُهُ اتهامَ المرأة له بـــ(الغشمنة)، فحاول إفهامها أنه يبيع في محله هذا منذ عشرين سنة، ولكن المرأة لم تستسلم، بل قالت له ساخرة: (عشرون سنة، ولا تعرف ما هي التفريعة؟ أحسن لك أن "تَنْضَبَّ في بيتك")، وتغادر المحل رغم استماتة البائع في محاولته فهم ما تقصد، لكنها لم تنسَ أن تنظر إليه باشمئزاز، وهي تغادر محله بمنتهى الكبرياء، وأنا أتمنى فعلًا ألا تكون قد (أبدعت) في سائر المحلات، بتكرارها هذا السؤال، وأن يكون زوجها قد أعادها إلى الفندق، وذهب بنفسه ليشتري لها ما تريد!
نحن نحتاج إلى الدروس التربوية في حياتنا، وبشكل دائم، وذلك لتزداد خبرتنا ونخرج من حِكَمِ الحياة ومواعظها بالنتائج الإيجابية لنستمر في مسار حياتنا، وقد أضْفَتْ إلينا هذه التجارب ما يجعلنا يومًا ما نجلس بإنهاك من مرور السنوات، لنقول إننا خَبِرْنَا الكثيرَ في هذه الحياة، على أن تكون دروسًا تربوية حقيقية، وليس كمثال المدير التربوي الذي يبغي المحافظة على مشاعر تلاميذه ولا مثال المرأة اللبنانية المتحمسة والبائع السعودي المسكين، بكل تأكيد!!عمر قزيحة: 24_8_2019م: الساعة: 2:39 دقيقة بعد الظهر
|
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أهلًا بك أ.عمر
أحب أن أقرأ لك، وإن كانت ردودي قليلة أو معدومة ربما
هذه القصص التي سردتها تؤكد لي مقولة "الإنسان كائن غريب"
لا أدري لمَ نناقض نفسنا عندما نأمر الآخرين أو ننهاهم عن أمور نحن بأنفسنا نفعلها!
أما قصة المدير فمؤسف جدًّا وجود شخص في الصرح التعليمي لا يحترم تلاميذه وتصدر منه ألفاظ جارحة كهذه!
في البداية انشرح صدري لعقده اجتماعًا ينهاكم فيه عن أذية مشاعر الطلاب، لكن ... !
طفلٌ في الروضةِ ذات يوم سأل المعلمات: "لماذا تطلبون منا تناول طعامٍ صحي وفي الحفلات لا تقدمون لنا سوى الحلويات؟"
يجب علينا أن نكون واضحين أمام الأطفال، وألا ننهاهم عن شيء ثم نقوم به
لأنهم في مرحلة التكوين والاكتشاف، وتناقضنا سيربكهم.
اللهم اهدِنا واهدِ الجميع وجمِّلنا بحُسنِ الخلق.
في أمـــان الله.
أهلًا بحضرتكِ الكريمة، بارك الله بكِ
ربما لأن بعض الناس يَرَوْنَ أنفسَهُم أفضل من سواهم، والنرجسية لديهم بدرجة عالية فينكرون الخطأ على سواهم إذ يعتبرونه أمرًا منكرًا فعلًا، بينما لو ارتكبوه هم فمن المؤكد أن لديهم أسبابهم ومسوغاتهم، وبالتالي لا يعتبرون أنفسهم مخطئين...
أقول (ربما) لأن الأمر كذلك!
طفل الروضة معه كل الحق في ما سأل عنه، وكلمتكِ هنا لا يُعلَى عليها في أسس التعامل مع الأطفال
لدعائكِ الطيب نقول: آمين...
وفي أمان الله.
|
وعليكمـ السلامـ ورحمة الله وبركاته~
حكايات فيها الغرابة!!،
تفاجأت أنو أغلقت الباب بقوة!!،
أول مرة أحس أنك تعاملت بقسوة!!،
أما العظام هذي حكاية لوحدها كافية!!،
مقطع صراحة خيالxD,
ربي يبارك بك أستاذ
كعادتك أسلوب جميل وسرد رائع!،
زادك ربي من فضله،
في حفظ المولى،،
𐩕
~
المفضلات